التعامل القرآني مع المرأة
فيما سبق من البحث اتضحت لنا نظرة الإسلام للإنسان كانسان رجلاً كان أو امرأة، ومن خلال دراسة النص القرآني نجد التثقيف المتواصل لتحرير المرأة، وإنقاذها من أوحال الجاهلية .. كما نجد النصوص التشريعية الكثيرة لتقنين حقوق المرأة، وتنظيم علاقتها مع الرجل .. ذلك لأنّ القرآن يريد بناء المجتمع الانساني على أسس انسانية سويّة مستقرة، والمرأة تشكل نصف المجتمع .. لذا كان اهتمام القرآن بتنظيم هذا النصف من المجتمع بالغاً .. ولذا كان اهتمام القرآن بتنظيم الحقوق والعلاقات بين الرجل والمرأة .. ليثبت لكل منهم حقّه كانسان، وحقّ الرجل كرجل، وحق المرأة كامرأة، أُمّاً كانت أو زوجة أو أختاً أو بنتاً .. الخ.
وبالعودة إلى القرآن الكريم نجد المئات من الآيات التي اهتمت بمعالجة شؤون المرأة .. ويهمنا هنا أن نعرض للأسس التي ثبتها القرآن لتعامل الرجل مع المرأة ومناصرته لها، ودفاعه عن حقوقها .. وأنّه لمن المذهل والمثير للإعجاب هو أنّ المعروف، الذي دعا إليه القرآن .. وهو أساس التعامل البشري .. جاء في ثمان وثلاثين آية: تسعة عشر منها خاصة بالتعامل بالمعروف مع المرأة، وتسعة عشر منها عامة تخص الرجل والمرأة .. وبذا يتضح موقف القرآن من المرأة .. وكما تحمل هذه المنظومة من الآيات تشكيلة فكرية متكاملة عن موقع المرأة في المجتمع إذ هو موقع الحب والودّ والاحترام، والمعروف والإحسان .. فإن هذه المنظومة من الآيات تكشف الجانب الاعجازي من القرآن، وهو من الاعجاز العددي .. إذ وردت ثمان وثلاثون آية، تسعة عشر منها تخص المرأة .. ومن المفيد أيضاً أن نذكر في مجال الاعجاز والاهتمام المتساوي بالمرأة مع الرجل، إنّ القرآن تحدث عن الأنثى في إثنتين وعشرين آية، وتحدّث عن الذكور في اثنتين وعشرين آية .. مستعملاً
(الذكر) و (الأنثى) و (الذكور) و (الأناث) .. وفي هذا الحضور العددي للآيات كشف عن إعجاز القرآن، كما هو كشف عن الاهتمام المتعادل بالرجل والمرأة على حد سواء، ليعرف لكل منهما حقّه على أساس العدل والإحسان والمعروف .. ولكي تزداد الصورة وضوحاً لدينا فلننقل الآيات التي تحدّثت عن التعامل بالمعروف مع المرأة فهنّ:
(ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة(( )) والله عزيز حكيم ) (البقرة/ 228).
(الطلاق مرّتان، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) (البقرة/ 229).
(وإذا طلّقتم النِّساء فبلغن أجلهنُّ فأمسكوهنَّ بمعروف أو سرِّحوهنَّ بمعروف ولا تمسكوهنَّ ضراراً لتعتدوا ومَن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هُزُواً واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بكلِّ شيء عليم * وإذا طلَّقتم النِّساء فبلغن أجلهنُّ فلا تعضلوهنَّ أن ينكحن أزواجهنَّ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به مَن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون * والوالدات يرضعن أولادهنُّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمَّ الرَّضاعة وعلى المولود له رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف لا تكلَّف نفس إلاّ وُسعها لا تضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلَّمتم ما آتيتم بالمعروف واتَّقوا الله واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير * والذين يتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنَّ أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنُّ بالمعروف والله بما تعملون خبير * ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النِّساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنّكم ستذكرونهنَّ ولكن لا تواعدوهنَّ سرّاً إلاّ أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزموا عقدة النِّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ الله غفور حليم * لا جناح عليكم إن طلَّقتم النِّساء ما لم تَمَسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة ومتِّعوهنَّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين )(البقرة/ 231 ـ 236).
(يا أيُّها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النِّساء كرهاً ولا تعضلوهنَّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنَّ إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيِّنة وعاشروهنَّ بالمعروف فإنْ كرهتموهنَّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) (النساء/ 19).
(يا أيُّها النَّبيُّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنَّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ ولا يعصينك في معروف فبايعهنَّ واستغفر لهنَّ الله إنّ الله غفور رحيم ) (الممتحنة/ 12).
(فإذا بلغن أجلهنَّ فأمسكوهنَّ بمعروف أو فارقوهنَّ بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومَن يتَّق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومَن يتوكَّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلِّ شيء قدراً * واللاّئي يئسن من المحيض من نسائكم إنْ ارتبتم فعدَّتهنَّ ثلاثة أشهر واللاّئي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ ومَن يتَّق الله يجعل له من أمره يسراً * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومَن يتَّق الله يكفِّر عنه سيِّئاته ويعظم له أجراً * أسكنوهنَّ من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضارُّوهنَّ لتضيِّقوا عليهنَّ وإن كنَّ أُولات حمل فأنفقوا عليهنَّ حتّى يضعن حملهنَّ فإن أرضعن لكم فآتوهنَّ أُجورهنَّ وأْتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) (الطلاق/ 2 ـ 6).
وإذا كان التعامل الأسري بين الرجل والمرأة، في كل حالات التعامل، كما توضحها الآيات يبنى على المعروف والإحسان.
وإنّ المعروف هو كل فعل وقول حسن يشخصه الشرع أو العقل .. إذا كان ذلك هو منهج التعامل. فإن ذلك مبني على أساس الرابطة النفسية بينهما .. رابطة الحب والود والرحمة والتكريم التي ثبتها القرآن الكريم في مشروعه لبناء الأسرة، والعلاقة بين الزوجين ورد ذلك في قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمةً إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون )(الروم/ 21).
وهذا التكريم هو تكريم شامل لكل بني آدم رجلاً كان أو امرأة ويجب أن يعيه ويدركه الانسان المسلم بوضوح .. وإذا كان هذا موقع الزوجة في الأسرة من زوجها، فإن موقعها كأم يتعاظم ويزداد .. فحقّها على أبنائها قد يفوق حق الأب عليهم .. قال تعالى: (أن أشكر لي ولوالديك إليَّ المصير ) (لقمان/ 14).
(وقضى ربُّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ) (الإسراء/ 23).
(ووصَّينا الانسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليَّ مرجعكم فأنبِّئكم بما كنتم تعملون )(العنكبوت/ .
(فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما ) (الإسراء/ 23).
وبهذه الأخلاقية والسلوكية تعامل القرآن مع المرأة .. المرأة الزوجة والمرأة الأم .. وحين تكون المرأة بنتاً أو أختاً أو ذات رحم فإن منهج القرآن في التعامل معها يسير على خط التكريم والإحسان والمعروف في أداء الحقوق ذاته .. والقرآن يبتدئ في تحديد الموقف والعلاقة بين الأب والبنت من أنّ البنت هبة ونعمة وعطاء رباني للانسان، كما أنّ الذكر كذلك .. جاء تثبيت هذا المبدأ بقوله سبحانه: (لله ملك السّموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذُّكور * أو يزوِّجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل مَن يشاء عقيماً إنّه عليم قدير ) (الشورى/ 49 ـ 50).
وكما يوضِّح القرآن أنّ الخلق لله سبحانه (خلق الزوجين الذكر والأنثى ) (النجم/ 45)، لبناء الحياة الانسانية، واستمرار النوع الانساني
.. ولا فضل لأحدهما على الآخر إلاّ بالتقوى والاستقامة .. كما يوضح القرآن ذلك، ويصحح المفهوم المتخلف يهاجم أولئك الذين يستقبلون الأنثى بالكراهية والاشمئزاز ويعدونها سوءاً .. ورد ذلك الهجوم في قوله تعالى: (وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسودّاً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به أيمسكه على هون أم يدُسُّهُ في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) (النحل/ 58 ـ 60).
وهكذا يسجِّل القرآن أنّ عرب الجاهلية كانوا يقتلون البنات، ويقومون بدفنهن أحياء للتخلص منهنّ .. في حين كان غيرهم من الشعوب يلجأ إلى بيع البنات، والتكسب بهن، كما تباع الحيوانات ..
كما كانوا هم أيضاً يتكسبون ببيع أولاد البغايا .. ويتحدّث القرآن عن ظاهرة الاستغلال الجنسي للمرأة في المجتمع الجاهلي كما هي في المجتمعات الجاهلية الأخرى القديمة والحديثة، فيقول: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتّى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومَن يكرهنَّ فإنّ الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم ) (النور/ 33).
ومن خلال مصادر التفسير، وسبب النزول، نعرف دلالة هذه النصوص العملية في المجتمع الجاهلي .. وتكرارها في المجتمعات الجاهلية الحديثة التي ادّعت تحرير المرأة .. قال المفسر الكبير الطبرسي في تفسير هذه الآية: (ولا تكرهوا فتياتكم ) أي إمائكم وولائدكم.
(على البغاء ) أي على الزنا، (إن أردن تحصناً ) أي: تعففاً وتزويجاً، عن ابن عباس .. وإنّما شرط ارادة التحصن، فإن لم ترد المرأة التحصن بغت بالطبع، فهذه فائدة الشرط (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) أي: من كسبهن، وبيع أولادهن، قيل: إن عبدالله بن أُبي كان له ستُّ جوار يكرهُنَّ على الكسب بالزنا .. فلمّا نزل تحريم الزنا، أتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكون إليه، فنزلت الآية: (ومَن يكرهنَّ ) .. أي ومَن يجبرهن على الزنا من سادتهن.
وهذا التفسير يضع أمامنا صورة الاستغلال الجنسي، والمتاجرة بالجنس، ويجسد وضع المرأة في الجاهلية القديمة، كما هو في الجاهلية الحديثة.
وتشهد الأرقام والإحصاءات إنّ المتاجرة بالجنس والمرأة عن طريق البغاء والإكراه عليه، هو من أخطر ما تعانيه المرأة في الحضارة المادية الحديثة، في كل أنحاء العالم، لا سيما في أوربا وأمريكا وآسيا .. بعض دول تلك الحضارة التي تدعي تحرير المرأة، وتحقيق المساواة لها في الحقوق مع الرجل .. وقد سبق التعريف ببعض الأرقام والإحصاءات الفاضحة التي تكشف جاهلية هذه الحضارة، وتعاملها العدواني والاستغلالي للمرأة، بعيداً عن مدعياتها في تحرير المرأة، وحفظ حقوقها وكرامتها الانسانية.
كما تشهد الإحصاءات والأرقام والأبحاث أنّ العلم الحديث توصل إلى مسألتين خطيرتين هما: أولاً القدرة على التأثير على نوع الجنس والتحكم فيه، واختيار النوع المطلوب قبل أن تحدد هويته .. وثانياً توصل العلم إلى تشخيص جنس الجنين، وهو في بطن أمّه ذكراً أو أنثى .. وتكشف الإحصاءات والتقارير أن بعض الرجال والنساء المتأثرين بمفهوم الانسان المادي عن المرأة وثقافته المادية .. إن هؤلاء يلجأون إلى استخدام اكتشافات العلم والتكنولوجيا لتنفيذ السلوكية العدوانية ضدّ المرأة، وتكرار ظاهرة الوأد، والتخلص من الأنثى باسقاطها وهي جنين .. وحين تبدأ عملية التحكم بنوع الجنين فسيمارس الانسان السلوكية ذاتها ضدّ الأنثى .. ذلك ما يتحدّث عنه القرآن، ويستنكره في المجتمع الجاهلي: (وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسودّاً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به أيمسكه على هون أم يدُسُّهُ في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (النحل/ 58 ـ 59).
والقرآن يرد على هذه العقلية المتخلفة ويشجبها بقوله: (لله مُلك السّموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذُّكُور * أو يزوِّجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل مَن يشاء عقيماً إنّه عليم قدير ) (الشورى/ 49 ـ 50).
ومن خلال قراءة التأريخ العملي، ودراسة المجتمع الاسلامي نجد الصورة الواقعية للمرأة في ظل المفهوم الاسلامي في عهد الرسالة فقد حرّر الاسلام المرأة من النظرة الاحتقارية والتعامل العدواني، ومفهوم الاسترقاق ومنحها الحقوق المدنية والسياسية كاملة ..