افتتاحية المحرر :
الأنوثة والحمل والأمومة ثلاث مراحل أساسية في تاريخ المرأة، يقابلها في تاريخ الرجل: الذكورة والإنجاب والأبوة ، فكلا الجنسين يمر بتلك المراحل، فالمرأة تكون جنيناً ثم أنثى ثم أماً، ومن ثم تتصف حياة كلٍّ بالتجدد المستمر والحيوية مما يبعث على مزيد من العطاء ؛ لأن الانسان في كل طور من تلك الأطوار يتحمل قدراً أكبر من المسؤوليات .
فسبحان من جعل هذه الأطوار والتبدلات - وهي نوع من الأطوار الكثيرة التي تكتظ بها الحياة - سبيلاً للحفاظ على الحياة الإنسانية بل الحياة مطلقاً، ولذلك نجد الإسلام حرص حرصاً كبيراً على استمرارية الحياة وسنَّ من القوانين والتشريعات ما يحفظ تلك الحياة على وجهها الأمثل، ومن ثمّ نبه إلى خطر العزوف عن تلك السنن والأطوار التي يكون مفتاحها الزواج فقال صلى الله عليه وسلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ] (رواه البخاري) ، وسنته صلى الله عليه وسلم هي الزواج ، والزواج هو الطريق إلى إنجاب الجنين ثم حصول الأنوثة والذكورة ثم الأبوة والأمومة ، وبهذا تستقيم الحياة كما أراد لها الله سبحانه.
ولعظم موقع (( الأمومة )) حتى وردت الوصية بالأم ثلاث مرات مقابل مرة واحدة للأب نبين ماهية تلك العاطفة من خلال (( معنى الأمومة )) ثم نرسم صورة كلية لـ (( الأم في الكتاب والسنة )) ثم نبين (( مكانة الأمومة في الإسلام)) وكيف أولاها عنايته ورعاها حق رعاية .
ولأن الأم منبع الأخلاق والأنماط السلوكية للطفل وهي المعلم الأول في حياته ، نركز على بيان (( أهمية الأمومة )) دينياً من حيث غرس مبادئ العقيدة في قلب الطفل ، واجتماعياً من حيث إنها تسهم بدور فعّال في تكوين شخصية الطفل ، ونفسياً من حيث إن الأم تحقق التوازن النفسي والصحة النفسية لدى الطفل ، وخلقياً من حيث إن الطفل يستلهم الأخلاق من والديه .
فإذا تحقق كل ذلك على مستوى الفرد ، انتقلنا لبيان مسؤولية الأم في إطار الجماعة ؛ فإن الأم تسهم بنصيب وافر في (( إيجاد الترابط الأسري )) وفي عملية (( الإصلاح الأخلاقي )) و (( التغيير الاجتماعي )) .
المحرر ...
معنى الأمومة :
الأمومة مشتقة من الأُمّ ، وأُمّ كل شيء: معظمه ، ويقال لكل شيء اجتمع إليه شيء آخر فضمّه : هو أُم له (فأُمُّه هاوية) القارعة: 9.
والأمومة: عاطفة رُكزت في الأُنثى السوية، تدفعها إلى مزيد من الرحمة والشَفقة.
مكانة الأمومة في الكتاب والسنة:
معتز عبد اللطيف الخطيب
1- مكانتها في الكتاب:
قدّس الإسلام هذه الصلة الوثيقة بين الأم والولد فحرّم أن تتحول هذه العلاقة من أمومة إلى زوجية أو غيرها فقال سبحانه: (حُرمت عليكم أمهاتكم) [سورة النساء 23] .
وأراد لهذه العلاقة أن تكون أبدية ثابتة حتى الممات.
وحسبنا دليلاً على مكانة الأمومة في القرآن الكريم أن الله سبحانه رعاها حق رعايتها حينما قصّ علينا قصة موسى عليه السلام وأمه فقال: (فرددناه إلى أمه كي تَقَرَّ عينُها ولا تحزن) . القصص:13.
(فرجعناك إلى أمك كي تقر عينُها ولا تحزن) . طه:40.
ولم يقف الأمر عند ذلك بل تعداه إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين. (حملته أمه كُرها ووضعته كُرها، وحملُه وفصاله ثلاثون شهراً) . الأحقاف: 15. فهنا ذكر سبحانه مُبررات ذلك الأمر ، فتلك الآلام التي قاستها الأُم تستوجب تلك الرعاية.
2-مكانتها في السنة:
لقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمومة مكانتها وأولاها عنايته، وجعل خير النساء من تقوم بحق الأمومة على الوجه الأمثل، فقال: [ خير نساء ركبن الإبل، صالحو نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج ذات يده] . رواه البخاري في النكاح ومسلم في فضائل السنة.
وكان صلى الله عليه وسلم يرعى حق الأمومة رعاية تامة يقول في ذلك:
[ إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه (أي فأسرع لما أعلم)] . رواه البخاري في الأذان ومسلم في الصلاة.
3- مكانتها عند السلف :
كذلك السلف رضوان الله عليهم اقتدوا بالكتاب والسنة فهذا قاضي المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم -رحمه الله- اقتص ممن استصغر شأن الحسن بن أُسامة بن زيد ابن أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال له: يا ابن بركة! يريد أم أيمن فسأله القاضي: ما أردت بقولك يا ابن بركة؟ قال: سميتها باسمها. قال أبو بكر القاضي: إنما أردتَ بهذا التصغير بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: يا أمه، ويا أم أيمن، لا أقالَني الله ( أي لا صفح عني وسامحني) إن أَقلتك، فضربه سبعين سوطاً. (طبقات ابن سعد ج8، ص226) .
وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرض لأبناء المهاجرين والأنصار ألفين فمر به عمر بن أبي سلمة فقال: زيدوه ألفاً. فقال عمر بن عبدلله بن جحش: ما كان لأبيه أبي سلمة ما لم يكن لآبائنا، وما كان له ما لم يكن لنا؟! فقال الخليفة عمر: إني فرضت له بأبيه أبي سلمة الفين وزدته بأمه أم سلمه ألفاً، فإن كان لك أمٌّ مثل أم سلمة زدتك ألفاً. (كتاب الخراج لأبي يوسف ص110).
أهمية الأمومة :
معتز عبد اللطيف الخطيب
1. الأهمية الدينية:
يرى الطفل - في مراحله الأولى على الأقل - في والديه القدوة والأسوة، فينطلق إلى محاكاتهما، وتقليدهما في الألفاظ والحركات والسلوك، بل إن اللغة التي يتعلمها الطفل إنما يتلقاها عن والديه، ثم عمن يحيطون به، فمن هنا كانت مسؤولية الوالدين - والأم خصوصاً - عظيمة في تنشئة الطفل تنشئة صحيحة تتفق مع المنهج الإسلامي الحكيم.
وهناك أولويات ينبغي غرسُها في الطفل، وأول تلك الأولويات العقيدة الإسلامية متمثلةً في أركان الإيمان ثم أركان الإسلام، فـ[ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ] . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري ومسلم) .
ومما يدل على أهمية تربية الوالدين وأثرها في عقيدة الطفل قوله صلى الله عليه وسلم: [ كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو يُنصّرانه أو يمجّسانه] . (رواه البخاري).
وهو الأمر الذي جسده القرآن في وصف والدين صالحين يدعوان ولدهما إلى الإيمان ، لكن بعد فوات الأوان حينما شب وكبر، يقول الله سبحانه وتعالى: (والذي قال لوالديه أُفٍّ لكما أَتَعِدَانِنِي أن أُخرج وقد خَلَت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلَكَ آمِنْ إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين). الأحقاف:17.
وثاني الأولويات بعد العقيدة: التشريع، وهو ما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجعل مسؤولية ذلك تقع على عاتق الوالدين يقول صلى الله عليه وسلم: [مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء السبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع] . (رواه أبو داود) .
ثم يأتي بعد التشريع: الأخلاق ويكون بتعويد الأولاد على محاسن الأخلاق كالصدق والأمانة… وتحذيرهم من مساوئ الأخلاق كالسرقة والكذب والخيانة والسباب والشتائم …، وعلى الأم أن تحرص ألا تأمر بما تذهب هي إلى ما يخالفه، فإن ذلك سينعكس على سلوك الولد.
2. الأهمية الاجتماعية:
من المعلوم أن البيئة الاجتماعية لها أثر كبير في شخصية الإنسان، وهو الأمر الذي لم يكن يجهله قوم مريم عليها السلام حين قالوا: ( يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمُّك بَغِيّا ). م ريم:28.
وهناك تداخل بين النواحي الأخلاقية والاجتماعية والنفسية فالإيثار: هو خُلق له طابع اجتماعي ونفسي لا ينفك عنه وكذلك العفو.
لكن ما نريد أن نركز عليه في الناحية الاجتماعية هو الانبساط في سلوك الطفل الذي تؤدي فيه الأم الدور الأكبر، فعليها أن تنشىء ولدها على الاختلاط بالناس، وتجنبه العزلة والانطواء ليكون له دور فاعل في المستقبل، من هنا سنّ الإسلام تشريعات تكفل تحقيق الألفة بين الأفراد، وهي الآداب الاجتماعية كآداب السلام والاستئذان والحديث والتهنئة والتعزية والعطاس وعيادة المريض.
فالأم هي أول من يكوّن عند الطفل منطلق العلاقات الإنسانية، فلا بد للطفل أن يتجاوز أمه إلى العالم الخارجي، ولا شك أن العلاقة بين الأم والأب ستنعكس على سلوك الطفل ونفسيته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
3. الأهمية النفسية:
من سنن الله في الأنفس أنه أودع المحبة والسَّكَن في الأم للولد، وفي الولد للأم، هذه هي السنة القويمة السوية، ومن ثم أوجب الله على الأم إرضاع ولدها فقال تعالى: (والوالدات يُرْضِعن أولادهن حولين كاملين). والرضاع يولّد العلاقة الحميمية بين الأم والطفل فيكون لصيقاً بها، الأمر الذي أكده البحث العلمي (فأوجب وضع الوليد على تماسّ حسي مع الأم بعد الولادة مباشرة وذلك لأهمية هذه اللحظات في مستقبل العلاقات اللاحقة بين الطفل والأم، وبين الطفل ومجتمعه ) (الأمومة. د. فايز قنطار، عالم المعرفة، ص72).
وذلك ليشعر بدفء الأم وحنانها منذ اللحظات الأولى من عمره فإن لذلك أثراً كبيراً في تكوين الطفل الاجتماعي ، ومن ثمّ فإن الأم اليَقِظة لسلوك ولدها وحاجاته والقريبة منه تعزّز لديه الثقة بالكبار فيعممها على الآخرين ولا يشعر بالرهبة والفزع عند رؤيتهم ، بينما تكون الأم القليلة الحساسية على العكس من ذلك مما يخلق لديه عدم الثقة والتعلق بالقلق. (انظر فايز قنطار، الأمومة، ص50).
إن الطفل إذا شعر بالأمن في علاقته بأمه يكون أقدر على التفاعل الاجتماعي مع أقرانه والغرباء عنه ، ومن ثمّ كان الجوّ الذي يُحاط به الطفل له الأثر الكبير في حياته.
لذلك كله كانت المحاضن والمراضع نقمة على الطفل، لأنها لا توفر له تلك الضروريات التي تكلمنا عليها.
يقول " إيريك فروم ": ( وفائدة حبّ الأم للطفل أنه ضمان مؤكد لاستمرارية حياته وتلبية حاجاته.
أما أنه ضمان لاستمرار حياته فإن لذلك مظهرين:
المظهر الأول: أن رعاية الطفل والمسؤولية عنه ضرورة مطلقة لحفظ حياة الطفل ونموه.
المظهر الثاني: يذهب إلى أعمق من مجرد الرعاية فهو يغرس في أعماق الطفل ومشاعره أن هناك ما يستحق أن يعيش من أجله، وأن الحياة شيء مفيد وجميل…) (مها عبدالله الأبرش، الأمومة ومكانتها في الإسلام ص:103-104) .
فالأم هي النافذة التي يُطل منها الطفل على العالم، لذلك عليها أن تنشئه على حب الخير للآخرين والجرأة، حتى يشعر بكيانه وقدرته على التفاعل مع المجتمع، فإنه إذا تربى على الخجل والخوف والشعور بالنقص ولّد ذلك في نفسه الحسد والغضب وكره المجتمع ومن ثم يصبح عدوانياً.
4. الأهمية الخُلقية:
سبق أنْ قررنا ما بين الجوانب الاجتماعية والنفسية والخلقية والدينية من تداخل فيصعب الفصل بينها بشكل حدّي.
إن انحراف الأم والأب الأخلاقي سيولّد - لا محالة - الانهيار الأخلاقي في الأسرة؛ لأن الوالدين هما القدوة العليا للطفل - خاصة في سنيه الأولى - فإذا كان ربّ البيت بالدف ضارباً فما بال الولد ؟ ذلك أن الطفل لا يُحسن سوى التقليد في سنيه الأولى حتى يتهيأ له مصادر أخرى للمعرفة فيما بعد كالمعلم والصديق…إخ.
ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للأم الصالحة (أم مريم) (وما كانت أمك بغياً ) مريم 28. بشهادة القوم ، ولذلك اتجهت إلى تنشئة ابنتها مريم تنشئة صالحة (إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم). وكذلك الأب: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْء). مريم:28.
فهذه البيئة الصالحة أنتجت ذلك الفرد الصالح في المجتمع وهو (مريم)، لذلك كان للبيئة الدور الأكبر في التنشئة الأخلاقية ، ومن ثم كانت ظاهرة السباب والشتائم تعكس سوء التربية الأخلاقية للولد.
الأم في الإسلام
معتز عبد اللطيف الخطيب
1. الأم في القرآن الكريم:
أم كل شيء: أصله وما يجتمع إليه غيره ، وبهذا المعنى ورد تعبير "أم الكتاب": (آل عمران 7. الرعد:13، الزخرف 4) في القرآن الكريم ، ونحوه : "أم القرى" (الأنعام: 92، الشورى7) ، وأم القرى: مكة قال سبحانه: ( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً ) . القصص:59.
ولقد أوصى القرآن الكريم بالأم، وكرر تلك الوصية لفضل الأم ومكانتها فقال سبحانه : (ووصّينا الإنسان بوالديه حَملته أمه وَهْناً على وهن، وفِصاله في عامين أنْ اشكر لي ولوالديك إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحِبْهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) . لقمان:14-15 .
فرباط الوالديّة (الأبوة والأمومة) وثيق جداً لا يعكر عليه شيء حتى لو كان الوالدان مشركين ، والعطف عليهما واجب مع عدم الإصغاء إليهما إن أمراه بما يخالف شريعة الله .
وكررّ هذه الوصية فقال: ( ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كُرهاً ووضعته كُرها وحملُه وفصاله ثلاثون شهراً ) . الأحقاف:15 .
وفضل الأم على الأب له موجباته وهو الحمل والرضاع والرعاية.
والإسلام قدّ س رابطة الأمومة، فجعلها ثابتة لا تتعرض للتبدلات والتغيرات، فحرم الزواج من الأمهات قال سبحانه: ( حُرمت عليكم أمهاتكم ) النساء:23. كما بيّن أن رباط الزوجية لا يمكن أن يتحول إلى رباط أمومة أبداً ، وشتان بينهما قال سبحانه: (وما جعل أزواجكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتكم ) . الأحزاب: 4 . (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هُنَّ أمهاتهم. إنْ أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنهم ). المجادلة:2.
إلا أن هذه الرابطة تتأثر بهول يوم القيامة فقط، فيستقل الولد عن أمه، والأم عن ولدها قال سبحانه: (يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) . عبس:34-36.
هذا وإن رباط الأمومة يبيح للولد أن يأكل من بيت أمه: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم ) . النور:61 .
بسبب ما تقدم من حقوق وواجبات جعل الله سبحانه الأم مسؤولة عن تربية ولدها، فهي راعية ومسؤولة عن رعيتها، وأشار سبحانه إلى هذه المسؤولية الأخلاقية في قوله: ( ما كان أبوك امرأ سَوء وما كانت أمك بغياً ) . مريم: 28. وذلك على لسان قوم مريم عليها السلام، فالملحوظ أن قوم مريم أدركوا هذه المسؤولية، فوجهوا إليها هذا الخطاب في تقرير المسؤولية الأخلاقية للوالدين، رغم ما في خطابهم من غمزٍ وتعريض لا تخفى دلالاته.
وبسبب ذلك أيضاً أوجب الله سبحانه وتعالى للأم ميراث ولدها إن مات في حياتها كما أوجب له ميراثها إن ماتت في حياته. قال سبحانه وتعالى: (فإن لم يكن له ولد ووَرِثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس) . النساء:11 .
ولما كانت الأم مصدر الحنان ومنبع الإحسان بالنسبة للولد ذكّر هارون أخاه موسى عليهما السلام بأمه حين غضب وأخذ برأسه، قال سبحانه: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبانَ أَسِفاً قال: بئسما خَلَفتموني من بعدي أَعَجِلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابنَ أمَّ إن القوم استضعفوني..) الأعراف: 150 . وفي موضع آخر قال: ( يا بنَ أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) . طه:94 . وذِكْر الأم هنا دون سواها للاستعطاف والاسترحام ولما ترمز إليه من الحنان والرحمة والشفقة.
وجعل الله سبحانه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من حيث واجبُ البر وحرمةُ الزواج والحقوق الواجبة لهن من الاحترام والتقدير، قال سبحانه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) . الأحزاب:6 .
ومن الأمثلة الفذة التي ضربها الله سبحانه في القرآن للأمهات المثاليات أسوة للمؤمنات مريم وأم موسى عليهما السلام.
أما مريم عليها السلام فجعل لها ربنا تبارك وتعالى سورة كاملة باسمها حكى القرآن فيها قصتها منذ أن حملت بها أمها ونذرتها لله سبحانه إلى أن حملت بعيسى عليه السلام ثم قصتها مع قومها قال سبحانه: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى رَبْوة ذات قرار ومعين) . المؤمنون: 50. ( وأمه صدِّيقة ). المائدة:75.
وأما أم موسى فاحتفل بها القرآن، وحكى قصتها مع ولدها زمن فرعون وكيف أن الله تعالى أوحى إليها فقال: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين … وأصبح فؤاد أُم موسى فارغاً إنْ كادت لتُبدي به لولا أن رَبطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) . القصص: 7-10 .
فلما كان حالها كذلك رعى الله سبحانه تلك العاطفة - عاطفة الأمومة - حق رعاية وامتنّ بذلك على موسى لعظيم تلك المنة وأهميتها، فقال سبحانه: (فرددناه إلى أمه كيف تقرّ عينها ولا تحزن ) . القصص: 23 .
2. الأم في السنة النبوية:
إن الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً نورد منها ما يفي بالغرض:
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: [أمك] . قيل : ثم من ؟ قال: [أمك] . قيل ثم من؟ قال [أمك] . قيل ثم من؟ قال: [أبوك] . رواه البخاري .
الأمر الذي يؤكد حرص الإسلام على مضاعفة العناية بالأم والإحسان إليها : أكثر من العناية بالأب مع أن كليهما (الأم والأب) أُمر المسلم بالإحسان إليه. (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً).
وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: [الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، وشهادة الزور] . رواه البخاري .
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سَبّ الوالدين وبيّن أنه من الكبائر فقال: [إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه] . قيل يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: [يسُب الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ أمه] . رواه البخاري .
ومن تمام الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى أهل وُدّهما قال صلى الله عليه وسلم: [إن أبرّ البرّ صلةُ الولد أهل ودّ أبيه] . رواه مسلم.
ومن تمام الإحسان أيضاً قضاءُ ما كان عليهما من دَين لله أو للناس فقد سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه، وتُوفيت قبل أن تقضيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فاقضِه عنها] . رواه مسلم.
وجاءت امرأة تسأله عن أمها التي ماتت وعليها صوم شهر؟ فقال: أرأيتِ لو كان على أمك دَين أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فدين الله أحق بالقضاء] .
وكذلك امرأة سألت عن أمها وماتت ولم تحجّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ حُجيّ عنها ] . رواه مسلم.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في البر فاستأذن ربّه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذن في زيارتها فأذن له. رواه مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم شديد البر بمرضعاته ومربياته من ذلك أنه جاءت حليمة أمه بالرضاعة فقام إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه. (الإصابة لابن حجر 4/274) .
وحين سيق إليه السّبيُ من هوازن كانت الشيماء بنت حليمة فيهم فلما انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني لأُختك من الرّضاعة وعرّفته بعلامة عرفها صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه، ودمعت عيناه وقال لها: [ ههنا ] ، فأجلسها على ردائه وخيّرها بين أن تقيم معه مُكرمة محبّبة أو أن ترجع إلى قومها، فأسلمت ورجعت إلى قومها، وأعطاها رسول الله نَعَماً وشاه وثلاثة أعبد وجارية.
3. الأم عند السلف
كان السلف رضوان الله عليهم يحتذون منهج النبوة فكان أبو بكر رضي الله عنه لما أسلم حمل إلى أمه الهداية ودعاها إلى الإسلام ولما تعذر عليه إسلامها طلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فأسلمت، وكذلك فعل أبو هريرة رضي الله عنه.
وعندما سمع عمر بن الخطاب صوت صائحة تَقَصّى خبرها فعرف أنها جارية من قريش تُباع أمها، فقال لحاجبه: ادع لي (أو قال : عليّ) بالمهاجرين والأنصار فلم يمكث إلا ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة قال: فَحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد : فهل تعلمون أنه كان مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا قال : فإنها أصبحت فاشية ثم قرأ (فهل عسَيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ) . محمد:22.
ثم قال: وأيّ قطيعة أعظم من أن تباع أم امرئ فيكم وقد أوسع الله لكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك. قال: فكتب في الآفاق: ألا تُباع أمّ حُرّ فإنها قطيعة رحم، وإنه لا يحلُّ. رواه الحاكم .
دور الأم في المجتمع
معتز عبد اللطيف الخطيب
يقول البيت المشهور:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق
وإذا كانت المرأة تُمثل نصف المجتمع ؛ لأنها الأم والأخت والبنت والزوجة، فالكل ( الأخت والزوجة والبنت ) مصدرها الأم ، والكل آيل إلى مرحلة الأمومة - لا محالة - وفق السنن الكونية الطبيعية ، من هنا ندرك مكانة الأم في المجتمع البشري، إذ هي مربية هذا النشء ومالكة زمام أمره ، والأمومة هي المهمة التي تَقَالَّها دعاة تحرير المرأة واعتبروها اضطهاداً للمرأة وحَطّاً من شأنها!!
مسؤولية الأم في إيجاد الترابط الأسري
إن العامل الأساسي في إيجاد عنصر الترابط الأسري هو الأم ؛لأنها تسهم في تكوين الطفل النفسي والاجتماعي. والطفل - خاصة في سنيه الأولى - يكتسب معظم الأنماط السلوكية والطباع من أمه اللصيقة به دائماً، من خلال رعايته والقيام بسدّ حاجاته ، بل إنه في الأصل جزء منها انفصل عنها، أضف إلى ذلك العوامل الوراثية ا لتي يكتسبها الطفل من الأم وكثيراً ما يكون للأم فيها نصيب وافر، فضلاً عن أن الأم هي الرفيق الدائم للطفل طوال النهار والليل وفي السفر والإقامة فالطفل يكتسب كل الأنماط السلوكية - حتى اللغة - من الأم أولاً ثم تتسع ينابيع المعرفة بالنسبة له فتشمل الأب ثم البيئة بما فيها من أصدقاء وأهل، ثم التجارب الشخصية والدراسة والتعلم .
فالولد الاجتماعي بطبعه يكون كذلك لأن أمه اجتماعية تألف وتؤلف وتحسن التواصل مع الآخرين ، والولد الانطوائي تكون أمه انطوائية لا تخالط الناس ونلحظ هذا بالمشاهدة في الواقع ، ونحن لا نغفل هنا دور الأب، لكن دور الأم أعظم لذلك كانت الوصية بها مضاعفه في الإسلام.
وكذلك تسهم الأم بالنصيب الأوفر في تكوين التعاطف بين الإخوة والتعاون والتضحية والإيثار وكل الأخلاق الاجتماعية لدى الولد ، فالولد صفحة بيضاء تكتب الأم عليها ما تشاء أن تكتب لا سيما أن طلب الأم مجابٌ على الفور من قِبل الولد، خاصة في سنيه الأولى والأب يساعد على ذلك أو يُعيقه.
مسؤولية الأم في الإصلاح الأخلاقي:
إذا كان الطفل يكتسب كل شيء - حتى اللغة - من ا لوالدين - وخاصة الأم - فإن الأخلاق عند الطفل ما هي إلا انعكاس لأخلاق والديه ، فالأم إن لم تعود طفلها إلا على سماع الكلمة الطيبة وكرّهت إليه الكلمة الخبيثة وغرست في نفسه الأخلاق الحميدة كالصدق والوفاء والإيثار وحب الآخرين ولم تمارس هي والأب عكس تلك الأخلاق فلا شك أن الطفل سيكون في مستوى أخلاقي لائق ، والظروف مهيئة جداً لغرس تلك الأخلاق فيمكنها - مثلاً - غرس خلق الإيثار عن طريق لعبة مع أخيه أو ابن الجيران فترشده إلى إيثاره باللعبة ، خاصة وأن الطفل في سنيه الأولى يحاول أن يتملك كل شيء يجده ويسعى إلى الاحتفاظ به لأنه في هذه المرحلة إلى السنة الخامسة يشعر بانفصال (الأنا) - وهو ما يسمى الأنا الشخصي - عن الأنا الجماعي فيشعر بأن له كينونته الخاصة به ، وأنه منفصل عن الأشياء المحيطة به، وأنه له حاجاته المستقلة عن حاجات الآخرين ويحاول أن يؤكد ذلك غالباً بالرفض والبكاء عند عدم الاستجابة له ونحو ذلك ، فعلى الأم أن تدرك تلك المراحل والتغيرات التي يتميز بها الطفل وتحسن التعامل معها، وهنا أجد من الضروري أن أؤكد على ضرورة اطلاع الأم على كتاب في علم نفس الطفل أو تربية الطفل لتعلم ما لا بد أن تعلمه عن الطفل ، والله سبحانه وتعالى يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). ويقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
فكثير من الأخلاق تتكون في السنين الأولى من حياة الطفل، ثم تتعمق بعد ذلك من خلال الممارسات المتكررة والاحتكاك بالآخرين، لأن الأخلاق اجتماعيةٌ أي تتكون وتظهر في نطاق الجماعة البشرية.
ونؤكد على كون ممارسة الوالدين للأخلاق بشكل ينسجم ولا يتعارض مع ما يعلمانه للطفل حتى تكون استجابته سويّة وإيجابية وحتى لا يشعر الطفل بالتناقض فالوالد الذي يقول لولده: إذا سأل عني أحد فقل له إني غير موجود ثم يأمره بعد ذلك بالصدق فكيف يمكن للطفل أن ينسجم مع هذا الواقع؟!
مسؤولية الأم في التغيير الاجتماعي:
إن الأسرة هي الخلية الأولى، وهي نواة المجتمع فمنها يتكون المجتمع، ومن المجتمع تتكون الأمة، والزواج هو الأساس الذي تُبنى عليه الأسرة في الإسلام لذلك كان اختيار الزوجة واختيار الزوج من الأمور المهمة جداً قبل الإقدام على تكوين الأسرة وخاصة الزوجة التي ستصبح أماً وسيكون عليها من الواجبات ما لا تكون أهلاً له إلا من أوتيت نصيباً من العلم والحلم والعقل والأخلاق لأنها ستورث كل ذلك للولد كما قدمنا.
من هنا كانت مرحلة التغيير الاجتماعي لا بد أن تبدأ من النواة الأولى لإصلاح كل العناصر الوافدة (المواليد) إلى هذا المجتمع ، وبهذا نمدُّ المجتمع بعناصر صالحة تكون عاملاً أساسياً في إحداث التغيير الاجتماعي قال سبحانه وتعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .
وتغيير ما بالنفس هو نقطة البداية للنهوض بالمجتمع من واقعه المتردّي. ولا شك أن هذا التغيير إذا تمّ على صعيد الوالدين سينتقل الصلاح ، وهو النتيجة التي آل إليها الوالدان إلى الولد الوافد إلى المجتمع ، وإذا عمّ ذلك وكثر وجدت المجتمع تغير بأكمله خلال جيل أو جيلين .
من هنا كان الزواج تكليفاً ومسؤولية جسيمة، وليس مجرد قضاء للوطر وتفريغ للشهوة.