قصة رجل حقيقه ..........
جاءني في يوم من الأيام جنازة لشاب لم يبلغ الأربعين ، ومع الشاب مجموعةمن
أقاربه ، لفت انتباهي ، شاب في مثل سن الميت يبكي بحرقة ، شاركني
الغسيل ، وهو بين خنين ونشيج وبكاء رهيب يحاول كتمانه ، أما دموعه فكانت
تجري بلا انقطاع ...
وبين لحظةٍ وأخرى أصبره وأذكره بعظم أجر الصبر ...
ولسانه لايتوقف عن قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لاحول ولاقوة إلا بالله ...
هذه الكلمات كانت تريحني قليلاً ...
بكاؤه أفقدني التركيز ، هتفت به بالشاب ...
- إن الله أرحم بأخيك منك ، وعليك بالصبر
التفت نحوي وقال : إنه ليس أخي
ألجمتني المفاجأة ، مستحيل ، وهذا البكاء وهذا النحيب
- نعم إنه ليس أخي ، لكنه أغلى وأعز أليّ من أخي ...
سكت ورحت أنظر إليه بتعجب ، بينما واصل حديثه ...
- إنه صديق الطفولة ، زميل الدراسة ، نجلس معاً في الصف وفي ساحة المدرسة
، ونلعب سوياً في الحارة ، تجمعنا براءة الأطفال مرحهم ولهوهم ...
- كبرنا وكبرت العلاقة بيننا ، أصبحنا لا نفترق إلا دقائق معدودة ، ثم نعود
لنلتقي ، تخرجنا من المرحلة الثانوية ثم الجامعة معاً ...
التحقنا بعمل واحد ...
تزوجنا أختين ، وسكنا في شقتين متقابلتين ...
رزقني الله بابن وبنت ، وهو أيضاً رُزق ببنت وابن ...
عشنا معاً أفراحنا وأحزاننا ، يزيد الفرح عندما يجمعنا ، وتنتهي الأحزان
عندما نلتقي ...
اشتركنا في الطعام والشراب والسيارة ...
نذهب سوياً ونعود سوياً ...
واليوم ... توقفت الكلمة على شفتيه وأجهش بالبكاء ...
- يا شيخ هل يوجد في الدنيا مثلنا ...
خنقتني العبرة ، تذكرت أخي البعيد عني ، لا .. لا يوجد مثلكما ..
أخذت أردد ، سبحان الله ، سبحان الله ، وأبكي رثاء لحاله ...
أنتهيت من غسله ، وأقبل ذلك الشاب يقبله ...
لقد كان المشهد مؤثراً ، فقد كان ينشق من شدة البكاء ، حتى ظننت أنه
سيهلك في تلك اللحظة ...
راح يقبل وجهه ورأسه ، ويبلله بدموعه ...
أمسك به الحاضرون وأخرجوه لكي نصلي عليه ...
وبعد الصلاة توجهنا بالجنازة إلى المقبرة ...
أما الشاب فقد أحاط به أقاربه ...
فكانت جنازة تحمل على الأكتاف ، وهو جنازة تدب على الأرض دبيباً ...
وعند القبر وقف باكياً ، يسنده بعض أقاربه ...
سكن قليلاً ، وقام يدعو ، ويدعو ...
انصرف الجميع ...
عدت إلى المنزل وبي من الحزن العظيم ما لا يعلمه إلا الله ، وتقف عنده
الكلمات عاجزة عن التعبير ...
وفي اليوم الثاني وبعد صلاة العصر ، حضرت جنازة لشاب ، أخذت اتأملها ،
الوجه ليس غريب ، شعرت بأنني أعرفه ، ولكن أين شاهدته ...
نظرت إلى الأب المكلوم ، هذا الوجه أعرفه ...
تقاطر الدمع على خديه ، وانطلق الصوت حزيناً ...
يا شيخ لقد كان بالأمس مع صديقه ...
يا شيخ بالأمس كان يناول المقص والكفن ، يقلب صديقه ، يمسك بيده ، بالأمس
كان يبكي فراق صديق طفولته وشبابه ، ثم انخرط في البكاء ...
انقشع الحجاب ، تذكرته ، تذكرت بكاءه ونحيبه ...
رددت بصوت مرتفع :كيف مات ؟
- عرضت زوجته عليه الطعام ، فلم يقدر على تناوله ، قرر أن ينام ، وعند
صلاة العصر جاءت لتوقظه فوجدته ، وهنا سكت الأب ومسح دمعاً تحدر على خديه ،
رحمه الله لم يتحمل الصدمة في وفاة صديقه ، وأخذ يردد : إنا لله وإنا إليه
راجعون ...
- إنا لله وإنا إليه راجعون ، اصبر واحتسب ، اسأل الله أن يجمعه مع رفيقه في
الجنة ، يوم أن ينادي الجبار عز وجل : أين المتحابين فيِّ اليوم أظلهم في
ظلي يوم لاظل إلا ظلي ...
قمت بتغسيله ، وتكفينه ، ثم صلينا عليه ...
توجهنا بالجنازة إلى القبر ، وهناك كانت المفاجأة ...
لقد وجدنا القبر المجاور لقبر صديقه فارغاً ...
قلت في نفسي مستحيل : منذ الأمس لم تأت جنازة ، لم يحدث هذا من قبل ...
أنزلناه في قبره ، وضعت يدي على الجدار الذي يفصل بينهما ، وأنا أردد ،
يالها من قصة عجيبة ، اجتمعا في الحياة صغاراً وكباراً ، وجمغت القبور
بينهما أمواتاً ...
خرجت من القبر ووقفت ادعو لهما : اللهم أغفر لهما وأرحمهما ، اللهم
واجمع بينهما في جنات النعيم على سرر متقابلين ، في مقعد صدق عند مليك
مقتدر ، ومسحت دمعة جرت ، ثم انطلقت أعزي أقاربهما ...
انتهى الشيخ من الحديث ، وأنا واقف قد أصابني الذهول ، وتملكتني الدهشة
، لا إله إلا الله ، سبحان الله ، وحمدت الله أن الورقة وصلت للشيخ وسمعت هذه
القصة المثيرة ، والتي لو حدثني بها أحد لما صدقتها ...
وأخذت ادعو لهما بالرحمة والمغفرة
__________________
استَعِينُواْ بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(البقرة 153)