من المسائل التي أثارت جدلاً
كبيرًا ـ لاسيما في مصر ـ في السنوات القليلة الماضية مسألة «ختان الإناث». وقد
بدأت إثارة هذه المسألة بسبب تقرير مصور أذاعته محطة تلفزيون CNN عن عملية ختان
تجرى في مصر لطفلة صغيرة (أذيع هذا التقرير في أواسط شهر سبتمبر
1994).
وقد
كتب كثيرون محاولين تقرير حكم الإسلام في هذا الختان، وكان أغلب ما كتب يدور حول
إثبات صحة مشروعية الختان، وبالغ بعضهم فوصفه بأنه من السنة، وغالى بعض آخر من
الكاتبين فقال إن مقتضى الفقه «لزوم الختان للذكر
والأنثى».
وليس ختان الذكور موضع خلاف، فلا حاجة إلى بيان حكم الشرع
فيه.
وحكم
الشريعة الإسلامية يؤخذ من مصادرها الأصلية المتفق عليها: وهى القرآن الكريم،
والسنة النبوية الصحيحة والإجماع بشروطه المقررة في علم أصول الفقه، والقياس
المستوفي لشروط الصحة.
أما فقه الفقهاء فهو العمل البشرى الذي يقوم به المتخصصون
في علوم الشرع لبيان أحكام الشريعة في كل ما يهم المسلمين ـ بل الناس أجمعين ـ أن
يعرفوا حكم الشريعة فيه. ولا يعد كلام الفقهاء (شريعة) ولا يحتج به على أنه دين، بل
يحتج به على أنه فهم للنصوص الشرعية، وإنزال لها على الواقع. وهو سبيل إلى فهم أفضل
لهذه النصوص وكيفية إعمالها، لكنه ليس معصوما، ويقع فيه الخطأ كما يقع فيه الصواب،
والمجتهد المؤهل من الفقهاء مأجور أجرين حين يصيب، ومأجور أجرا واحدا حين
يخطئ.
فإذا
أردنا أن نتعرف على حكم الشريعة الإسلامية في مسألة ختان الإناث، فإننا نبحث في
القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم الإجماع ثم القياس، وقد نجد في الفقه ما يعيننا
فنطمئن به إلى فهمنا ونؤكده، وقد لا نجد فيه ما ينفع في ضوء علم عصرنا وتقدم
المعارف الطبية خاصة، فنتركه وشأنه ولا نعول على ما هو مدون في
كتبه.
وقد
خلا القرآن الكريم من أي نص يتضمن إشارة من قريب أو بعيد إلى ختان الإناث. وليس
هناك إجماع على حكم شرعي فيه، ولا قياس يمكن أن يقبل في
شأنه.
أما
السنة النبوية فإنها مصدر ظن المشروعية، لما ورد في مدوناتها من مرويات منسوبة إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن. والحق أنه ليس في هذه المرويات دليل واحد
صحيح السند يجوز أن يستفاد منه حكم شرعي في مسألة بالغة الخطورة على الحياة
الإنسانية كهذه المسألة.
ولا حجة ـ عند أهل العلم ـ في الأحاديث التي لم يصح نقلها
إذ الحجة فيما صح سنده دون سواه.
والروايات التي فيها ذكر ختان الإناث أشهرها حديث امرأة
كانت تسمى: أم عطية، وكانت تقوم بختان الإناث في المدينة المنورة، زعموا أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا أم عطية: أشمى ولا تنهكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى
عند الزوج»[1].
وقد عقب أبو داود ـ والنص المروي عنده مختلف لفظه عن النص
السابق ـ على هذا الحديث بقوله «روي عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بمعناه
وإسناده، وليس هو بالقوي، وقد روي مرسلا، ومحمد بن حسان (راوي الحديث) مجهول، وهذا
الحديث ضعيف»[2].
وعلق الإمام شمس الحق العظيم آبادي على كلام أبي داود
بقوله:
«ليس الحديث بالقوي لأجل الاضطراب، ولضعف الراوي وهو محمد
بن حسَّان الكوفي... وتبع أبا داود (في تجهيل محمد بن حسان) ابن عديّ والبيهقي،
وخالفهم الحافظ عبد الغني بن سعيد فقال هو محمد بن سعيد المصلوب على الزندقة أحد
الضعفاء والمتروكين»[3].
وهذا الراوي (محمد بن حسان أو محمد بن سعيد المصلوب) كذّاب،
قال عنه العلماء إنه وضع أربعة آلاف حديث (أي نسبها كذباً إلى رسول الله r) وقال
الإمام أحمد: قتله المنصور على الزندقة (أي بسبب الزندقة)
وصلبه[4].
وقد جمع بعض المعاصرين طرق هذا الحديث، وكلها طرق ضعيفة لا
تقوم بها حجة حتى قال أخونا العلامة الدكتور محمد الصباغ في رسالته عن ختان الإناث:
«فانظر رعاك الله إلى هذين الإمامين الجليلين أبى داود والعراقي وكيف حكما عليه
بالضعف ولا تلتفت إلى من صححه من المتأخرين[5]». ومن قبل قال شمس الحق العظيم
آبادي: «وحديث ختان المرأة روي من أوجه كثيرة وكلها ضعيفة معلولة مخدوشة لا يصح
الاحتجاج بها كما عرفت»[6].
فحديث أم عطية ـ إذن ـ بكل طرقه لا خير، فيه ولا حُجَّةَ
تستفاد منه. ولو فرضنا صحته، جدلا، فإن التوجيه الوارد فيه لا يتضمن أمرا بختان
البنات وإنما يتضمن تحديد كيفية هذا الختان إن وقع، وأنها (إشمام) وصفه العلماء
بأنه كإشمام الطيب، يعنى أخذ جزء يسير لا يكاد يحس من الجزء الظاهر من موضع الختان
وهو الجلدة التي تسمى «القلفة»، وهو كما قال الإمام الماوردى: «.....قطع هذه الجلدة
المستعلية دون استئصالها»، وهو كما قال الإمام النووي: «قطع أدنى جزء منها»
فالمسألة مسألة طبية دقيقة تحتاج إلى جراح متخصص يستطيع تحديد هذا «الجزء المستعلي»
الذي هو «أدنى جزء منها»، ولا يمكن أن تتم ـ لو صح جوازها ـ على أيدي الأطباء
العاديين فضلا عن غير المتخصصين في الجراحة من أمثال القابلات والدايات وحلاقي
الصحة....إلخ، كما هو الواقع في بلادنا وغيرها من البلاد التي تجرى فيها هذه
العملية الشنيعة للفتيات.
والحديث الثاني الذي يوازي في الشهرة حديث أم عطية هو ما
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء». وقد نص
الحافظ العراقي في تعليقه على إحياء علوم الدين على ضعفه، أيضا، وسبقه إلى تضعيفه
الأئمة البيهقي وابن أبي حاتم وابن عبد البر. ومداره (أي جميع طرق روايته تدور على
أو تلتقي عند) على الحجاج بن أرطاة وهو لا يحتج به لأنه مدلس. ولذلك ـ ولغيره ـ قال
العلامة الشيخ سيد سابق في فقه السنة: «أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصح
منها شيء»[7].
وقد نص الحافظ ابن حجر في كتابه: (تلخيص الحبير في تخريج
أحاديث الرافعى الكبير) على ضعف هذا الحديث، ونقل قول الإمام البيهقى فيه: إنه ضعيف
منقطع. وقول ابن عبد البر في (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد): إنه
يدور على رواية راو لا يحتج به[8].
وكلام الحافظ أبى عمر بن عبد البر في كتابه المذكور نصه:
«واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبى المَليح هذا، وهو يدور على حجاج بن أرطاة، وليس
ممن يحتج بما انفرد به، والذي أجمع المسلمون عليه: الختان في الرجال ....
»[9].
وعلى
ذلك فليس في هذا النص حجة، لأنه نص ضعيف مداره على راو لا يحتج بروايته، فكيف يؤخذ
منها حكم شرعي بأن أمرا معينا من السنة أو من المكرمات وأقل أحوالها أن تكون
مستحبة، والاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل
صحيح.
ولا
يرد على ذلك بأن لهذا الحديث شاهدا أو شواهد من حديث أم عطية السابق ذكره، فإن جميع
الشواهد التي أوردها بعض من ذهب إلى صحته معلولة بعلل قادحة فيها مانعة من الاحتجاج
بها.
وعلى
الفرض الجدلي أن الحديث صحيح ـ وهو ليس كذلك ـ فإنه ليس فيه التسوية بين ختان
الذكور وختان الإناث في الحكم. بل فيه التصريح بأن ختان الإناث ليس بسنة، وإنما هو
في مرتبة دونها. وكأن الإسلام ـ لو صح الحديث ـ حين جاء وبعض العرب يختنون الإناث
أراد تهذيب هذه العادة بوصف الكيفية البالغة منتهى الدقة، الرقيقة غاية الرقة بلفظ
(أشمى ولا تنهكي) الذي في الرواية الضعيفة الأولى، وأراد تبيين أنه ليس من أحكام
الدين ولكنه من أعراف الناس بذكر أنه (سنة للرجال...) ـ وهى (أي السنة) هنا بمعنى
العادة لا بالمعنى الأصولي للكلمة ـ في الرواية الضعيفة الثانية
.
ثم إن
بعض الفضليات نبهتني إلى أن حديث أم عطية يناقض آخره أوله. ففي أوله أمر بالختان
وفي آخره بيان أن بعض ذلك الجزء المطلوب إزالته (أسرى للوجه وأحظى عند الزوج)!
فلماذا لا يبقى أصل الخلقة كما خلقها الله تعالى فتكتمل نضارة الوجه والحظوة عند
الزوج؟!
ولا تحتمل الروايتان، على الفرض الجدلي بصحتهما، تأويلا
سائغا فوق هذا. و لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم التسوية بين الرجال والنساء
لقال: «إن الختان سنة للرجال والنساء»، أو لقال «الختان سنة» وسكت؛ فإنه عندئذ يكون
تشريعًا عامًا ما لم يقم دليل على خصوصيته ببعض المكلفين دون بعض. أما وقد فرق
بينهما في اللفظ ـ لو صحت الرواية ـ فإن الحكم يكون مختلفا، وكونه سنة ـ بالمعنى
الأعم لهذه الكلمة أي معنى العادة المتبعة لا الحكم الشرعي ـ يكون في حق الرجال
فحسب. وهذا هو ما فهمه الإمام ابن عبد البر القرطبي حين عَرَّضَ بالذين قالوا إنه
«سنة» لاعتمادهم تلك الرواية الضعيفة وبين أن الإجماع منعقد على ختان
الرجال.
ولمثل هذا الفهم قال الإمام ابن المنذر «ليس في الختان خبر
يرجع إليه ولا سنة تتبع»[10]. وهو ما احتج به ـ مقرًا له ـ العلامة الشيخ محمد رشيد
رضا في جواب سؤال نشره في مجلة المنار[11].
وقال الإمام الشوكانى: «ومع كون الحديث لا
يصلح للاحتجاج به فهو لا حجة فيه على المطلوب لأن لفظة السنة في لسان الشارع أعم من
السنة في اصطلاح الأصوليين... ولم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب والمتيقن السنة...
وسائر خصال الفطرة ليست واجبة»[12].
وفى بعض ما نشر مؤخرا في مصر حول هذا الموضوع
ذكر امرأة سموها (أم حبيبة) وذكر حديث لها في هذا الشأن مع النبي صلى الله عليه
وسلم[13]. وهذا الحديث لا يوجد في كتب السنة وليس هناك ذكر فيها، ولا في كتب تراجم
الصحابة، لامرأة بهذا الاسم كانت تقوم بهذا العمل. فكلامهم هذا لا حجة فيه، بل لا
أصل له.
وقد احتجوا بحديث روي عن عبد الله بن عمر فيه خطاب لنساء
الأنصار يأمرهن بالختان. وهو حديث ضعيف كما في المصدر الذي نقلوه منه نفسه[14]. فلا
حجة لأحد في هذا الأمر المزعوم كذلك.
وفى السنة الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها ـ
مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقوفا على عائشة ـ حديث يروى بألفاظ
متقاربة تفيد أنه: «إذا التقى الختانان فقد وجب
الغسل»[15].
وموضع الشاهد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «الختانان» إذ
فيه تصريح بموضع ختان الرجل والمرأة، مما قد يراه بعض الناس حجة على مشروعية ختان
النساء.
ولا حجة في هذا الحديث الصحيح. لأن اللفظ هنا جاء من باب
تسمية الشيئين أو الشخصين أو الأمرين باسم الأشهر منهما، أو باسم أحدهما على سبيل
التغليب. ومن ذلك كلمات كثيرة في صحيح اللغة العربية منها العمران (أبو بكر وعمر)،
والقمران (الشمس والقمر) والنيران (هما أيضا، وليس في القمر نور بل انعكاس نور
الشمس عليه) والعشاءان (المغرب والعشاء) والظهران (الظهر والعصر)، والعرب تغلب
الأقوى والأقدر في التثنية عادة ولذلك قالوا للوالدين: (الأبوان) وهما أب وأم. وقد
يغلبون الأخف نطقا كما في العمرين (لأبى بكر وعمر) أو الأعظم شأنا كما في قوله
تعالى: «وما يستوي البحران هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج» فالأول النهر والثاني البحر
الحقيقي، وقد يغلبون الأنثى في هذه التثنية ومن ذلك قولهم: (المروتان) يريدون جبلي
الصفا والمروة في مكة المكرمة. وكل ذلك مشهور معروف عند أهل العلم بلسان
العرب[16].
فلفظ (الختانين) في هذا الحديث الصحيح لا دلالة فيه على
مشروعية ختان الإناث، حيث إنه لم يرد إلا على سبيل التثنية التي تغلب الأقوى، أي
الرجل، على المرأة. والحديث وارد في أمر الغسل وما يوجبه، وليس في شأن الختان
أصلاً. والحديث، بعد ذلك، مؤول عند العلماء كافة، فهم لا يوجبون الغسل بمجرد التقاء
الختانين، وإنما بالإيلاج[17].
وقد اعترض العلامة الشيخ القرضاوي على هذا التأويل بحديث
عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم في صحيحه وفيه: «.... ومس الختانُ الختانَ فقد
وجب الغسل»، فقال: «فلم يجئ بلفظ التثنية»[18]. وهذا الاعتراض لا يغير من الأمر
شيئًا فإن الحديث في موجب الغسل لا في وجوب الختان ولا جوازه. ومعنى «مس الختان
الختان» وقوع الجماع التام كما في شرح النووي على صحيح مسلم[19]. والغسل يجب به ولو
لم يكونا مختونين[20] والاستدلال بعدم التثنية يكون له وجه لو أننا تأكدنا أن
الرواية؛ باللفظ النبوي لا بالمعنى، وهو أمر لا يمكن التيقن منه مع إجازة الأئمة
الرواية بالمعنى.
ويحتج بعض مؤيدي ختان الإناث
بحديث:
«الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الاختتان، والاستحداد، وقص
الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط»[21]. وعن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها وغيرها
من الصحابة ـ في خصال الفطرة أنها عشر خصال، منها قص الشارب، وإعفاء اللحية.
والصحيح
أن هذا الحديث الصحيح لا حجة فيه على ختان الإناث، حيث إن قص الشارب وإعفاء اللحية
خاص بالذكور دون الإناث، وأصل الحديث في شأن الفطرة هو ما رواه مالك في الموطأ عن
يحيى بن سعيد أن إبراهيم عليه السلام كان أول من اختتن، وعلى هذا إجماع العلماء،
كما نقله ابن عبد البر في التمهيد، وقال: إنه من مؤكدات سنن المرسلين التي لا يسع
تركها في الرجال وهو نفسه الذي أنكر صحة ختان الإناث، كما
أسلفنا.
فلا يجوز أن يقال إن ختان الإناث من أمور الفطرة أو من
خصالها وفقا لما جاء في بعض الأحاديث، ذلك أن الختان الذي يعد من قبيل خصال الفطرة
إنما هو ختان الذكور وهو الذي يسمى ختاناً في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء، أما ختان
الإناث فإنه يسمى ختاناً على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة، وأن حقيقة مسماه
أنه «خفاض»[22].
ولا يحتج هنا ـ كما يفعل بعضهم ـ بقاعدة «الأصل في الأشياء
الإباحة» لأن هذه القاعدة الفقهية الصحيحة يقصد بها إباحة استعمال الأشياء التي
خلقها الله لنا مثل المياه والأشجار وموارد الأرض المختلفة. أما ما يمس جسد الإنسان
وماله وعرضه وسمعته فالأصل فيها التحريم وليس الإباحة. ولذلك يعتبر الاعتداء على
الأموال والتعرض لسمعة الناس بالتشويه والتجريح، وانتهاك الأجساد بالضرب أو الجرح
أو القطع من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية عقابا شديداً رادعاً.
وختان الإناث هو تعرض لجسد فتاة صغيرة بالجرح والقطع فلا يجوز أن نقول إنه من
الأشياء المباحة بل هو من المحظور والمجرَّم شرعا وقانونا والقاعدة الشرعية المتفق
عليها أن الأصل في الدماء والأموال والأعراض التحريم، لا
الإباحة.
وهكذا يتبين أن السنة الصحيحة لا حجة فيها على مشروعية ختان
الأنثى. وأن ما يحتج به من أحاديث الختان للإناث كلها ضعيفة لا يستفاد منها حكم
شرعي. والصحيح منها ليس نصًا في المسألة ولا يصلح دليلاً على المشروعية. وأن الأمر
لا يعدو أن يكون عادة من العادات ترك الإسلام للزمن ولتقدم العلم الطبي أمر تهذيبها
أو إبطالها.
وبقي أن نُذِّكرَ الداعين إلى ختان الإناث، والظانين أنه من
الشرع، أن هذا الختان الذي نتحدث عنه ليس معنىً مجردًا نظريًا يجوز أن يتجادل فيه
الناس حول الصحة والفساد العقليين، وإنما هو عادة سائدة تدل الإحصاءات المصرية
المنشورة على أن 95% من الإناث المصريات تجرى لهن عملية الختان[23]. وهى تجرى بإحدى
صور ثلاث كلها تخالف ما يدعو المؤيدون لختان الإناث إلى اتباعه
فيها.
وبجميع الصور التي يجرى بها الختان للإناث في مصر فإنه يقع
تحت مسمى «النهك» الذي ورد في نص الحديث الضعيف، أي إنه لا فائدة من الاحتجاج بما
يحتجون به من هذا الحديث لأن العمل لا يجري على وفقه، بل يجري على
خلافه.
والختان الذي يجري في مصر، بصوره الثلاث، عدوان على الجسم
يقع تحت طائلة التجريم المقرر في قانون
العقوبات[24].
والمسؤولية الجنائية والمدنية عن هذا الفعل يستوي فيها
الأطباء وغير الأطباء لأن الجهاز التناسلي للأنثى في شكله الطبيعي الذي خلقه الله
تعالى عليه ليس مرضا، ولا هو سبب لمرض، ولا يسبب ألمًا من أي نوع يستدعي تدخلا
جراحيا، ومن هنا فإن المساس الجراحي بهذا الجهاز الفطري الحساس على أية صورة كان
الختان عليها لا يعد ـ في صحيح القانون ـ علاجا لمرض أو كشفًا عن داء أو تخفيفًا
لألم قائم أو منعًا لألم متوقع، مما تباح الجراحة بسببه، فيكون الإجراء الجراحي
المذكور غير مباح وواقعًا تحت طائلة
التجريم[25].
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تغيير خلق الله،
وصح عنه لعن «المغيِّرات خلق الله»[26]، والقرآن الكريم جعل من المعاصي قطع بعض
الأعضاء ولو من الحيوان، بل هو مما توعد الشيطان أن يُضِلَّ به بني آدم في أنعامهم
وقرنه بتغيير خلق الله، فقال تعالى عن الشيطان: {لعنه الله وقال لأتخذَّن من عبادك
نصيبا مفروضا. ولأضلَّنهم ولأمنَّيَنَهم ولآمرنَّهم فليُبَتَّكُن آذان الأنعام
ولآمرنَّهم فليغيرُّن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا
مبينا}. [النساء 118 ـ 119، والتبتيك: التقطيع].
والختان بصوره التي يجري بها في مصر، وفى
أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، فيه من تغيير خلق الله ومن قطع بعض أعضاء الإنسان
المعصومة ما لا يخفى. وإذا كان هذا في الحيوان من إضلال الشيطان فكيف يكون في حق
الإنسان؟؟
ومن المعلوم للكافة أن هذا الموضع الذي يجرى فيه الختان هو
أحد المواضع شديدة الحساسية للاستثارة الجنسية، وأنه يتوقف على كيفية ملامسته إرواء
المرأة من متعة التواصل الواجب مع الزوج أو حرمانها منها، وعلى اكتمال الشعور بهذا
الإرواء يتوقف إحساس المرأة بالإشباع العاطفي، وهو يكتمل باكتماله وينقص بقدر
نقصانه، وكل مساس جراحي بهذا الجزء من الجسم ينتقص ـ بلا خلاف ـ من شعور المرأة
بهذين الأمرين. وهذا عدوان صريح على حقها المشروع في المتعة بالصلة الحميمة بينها
وبين زوجها، وفى السلام النفسي المترتب على استيفائها لهذا الحق. وقد خلق الله
أعضاء كل إنسان على صورة خاصة به غير متكررة بتفصيلاتها في غيره، وهو أعلم بما خلق
ومن خلق، ولم يكن صنعه في أحد من خلقه عبثا أو غفلة حتى تأتى الخافضة، برأي هؤلاء
الداعين إلى ختان الإناث، فتصححه. إنما جعلت أعضاء كل إنسان لتؤدى وظائفها له على
أكمل نحو وأمثله، وحرمانه من ثمرات بعض هذه الوظائف عدوان عليه بلا
شك.
والذين
يدعون إلى استمرار ختان الأنثى يتجاهلون هذه الحقيقة ويؤذون النساء بذلك أشد
الإيذاء. وهو إيذاء غير مشروع، والضرر المترتب عليه لا يمكن جبره، والألم النفسي
الواقع بالمرأة بسببه لا يستطيع أحد تعويضها
عنه.
وإذا
كان الختان ليس مطلوبا للأنثى، ولا يقوم دليل واحد من أدلة الشرع على وجوبه ولا على
كونه سنة، فبقى أنه ضرر محض لا نفع فيه. وليس كما يزعم الداعون إليه أنه «يهذب
كثيرًا من إثارة الجنس، لاسيما في سن المراهقة ....... » إلى أن قالوا «وهذا أمر قد
يصوره لنا، ويحذر من آثاره ما صرنا إليه في عصرنا من تداخل وتزاحم بل وتلاحم بين
الرجال والنساء في مجالات الملاصقة التي لا تخفى على أحد فلو لم تختن الفتيات ....
لتعرضن لمثيرات عديدة تؤدي بهن مع موجبات أخرى تزخر بها حياة العصر وانكماش الضوابط
فيه إلى الانحراف والفساد»[27]. انتهى كلامهم.
أقول إن الأمر ليس كما يزعمون، لأن موضع
الختان لا تتحقق الإثارة الجنسية فيه إلا باللمس الخاص المباشر الذي لا يقع قطعا في
حالات التداخل والتزاحم ومجالات الملاصقة (التي أظهرها وسائل المواصلات العامة)
التي يتحدثون عنها. وهذه المجالات يجري فيها تلامس غير جائز بين الرجال والنساء في
أجزاء شتى من الجسم البشرى، فهل نعالج هذه الحالات بقطع هذه الأجزاء من أجسام الناس
جميعا؟؟
ومعلوم أن كل عفيف وكل صائنة نفسها يكونان في غاية الألم
والأسى إذا وقع شيء من ذلك، وهو يقع عادة دون قصد أو تعمد. ومع هذه الحال النفسية ـ
التي يكون فيها الأسوياء من الناس نساء ورجالا تعساء آسفين مستغرقين حياء وخجلا ـ
لا تقع استثارة جنسية أصلا، لأن مراكز الإحساس في المخ تكون معنية بشأن آخر غير هذا
الشأن الذي لا يكون إلا في طمأنينة تامة وراحة كاملة واستعداد راض، اللهم إلا عند
المرضى والشواذ وهم لا حكم لهم.
إن العفة والصون المطلوبان للنساء والرجال على سواء هما
العاصم مما لا يحمد من نتائج اللقاء المتقارب بين النساء والرجال. والتربية على
الخلق القويم هي الحائل الحقيقي بين هذا اللقاء وبين إحداث آثار ممنوعة شرعا
مستهجنة خلقا. أما ما يدعون إليه من ختان الإناث فلا فائدة فيه، بل هو ضار ضررا
محضا كما بينا.
ومن واجب الدولة في مصر، وفى غيرها من البلاد الإسلامية
التي تشيع فيها هذه العادة السيئة، إصدار التشريع المانع لممارستها، لاسيما على
الوجه الذي تمارس به الآن، ولا يجوز أن يمنع من ذلك جمود بعض الجامدين على ما ورثوه
من آراء السابقين، فقد نص الفقهاء على أن في قطع الشفرين (وهما اللحمان المحيطان
بموضع الجماع) الدية الكاملة، والدية عقوبة لمن يدفعها وتعويض لمن يستحقها، وعللوا
ذلك بأنه بهذين الشفرين «يقع الالتذاذ بالجماع». فكل فوات لهذا الالتذاذ أو بعض منه
يوجب هذه العقوبة التعويضية ومنع سببه جائز قطعا، بل هو أولى من انتظار وقوعه ثم
محاولة تعليله أو تحليله[28].
وهكذا يتبين حكم الشرع في ختان الأنثى: أنه لا واجب ولا
سنة، ولم يدل على واحد منهما دليل، وليس مكرمة أيضا لضعف جميع الأحاديث الواردة
فيه. بل هو عادة، وهى عادة ليست عامة في كل بلاد الإسلام بل هي خاصة ببعضها دون
بعض. وهى عادة ضارة ضررا محضا لا يجوز إيقاعه بإنسان دون سبب مشروع، وهو ضرر لا
يعوض لاسيما النفسي منه. وقد أوجب الفقهاء إذا فاتت بسببه ـ أو بسبب الحيف فيه على
ما يجري الآن في بلادنا في جميع حالات الختان ـ متعة المرأة بلقاء الرجل، أوجب
الفقهاء فيه القصاص أو الدية. ومثل هذا يدخل في باب الجرائم المحظورة لا في باب
المباحات، فضلا عن السنن أو المندوبات.
فليتق الله أولئك الذين يسوغون ما لا يسوغ،
وينسبون إلى الشرع ما ليس منه. وليذكروا وصية الرسول بالنساء: «استوصوا بالنساء
خيرا»[29]. وليضعوا أنفسهم موضع هؤلاء المسكينات اللاتي حرمن بهذا الختان، الذي لم
يرد به شرع، متعة لو حرمها هؤلاء الرجال ما عوضهم عنها شيء
قط!!
والحق
أن الختان شأن طبي بحت، حكمه الشرعي يتبع حكم الأطباء عليه، وما يقوله الأطباء فيه
ملزم للناس جميعًا، ولا يرد عليهم بقولة فقيه ولا محدث ولا مفسر ولا داعية ولا طالب
علم. فإذا تبين من قول الأطباء العدول الثقات أنه ضار ضررًا محضًا وجب منعه إنفاذًا
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا
ضرار»[30].
ولا يرد على ذلك بأن الختان عادة قديمة جرى بها العرف،
والعرف من مصادر التشريع فيجب الأخذ به في إباحته، ذلك لأن العرف الذي يعتد به يجب
ألا يكون مصادمًا لنص شرعي[31]. والختان مصادم لنصوص تحريم الجرح وقطع الأعضاء
والإضرار بالناس، فلا يبيحه جريان العمل به مهما طال زمنه، لأن استعمال
الناس
ـ أي
عادتهم ـ ليس حجة فيما يخالف النصوص الشرعية[32]. ولا يجوز الاعتداد في مواجهة هذا
كله برأي فقيه أو مذهب فقهي بعد ما تبين أنه ليس له من أصول الشريعة سند يقوم
عليه.
وقد
نشرت بعض الصحف المصرية مؤخرًا أن دار الإفتاء تبحث إصدار فتوى تتضمن تحريم ختان
الإناث. ولو فعلت دار الإفتاء ذلك فإنها تكون قد أسدت خدمة عظيمة لصحيح الفقه،
وأسهمت في الإعلام بالحكم الإسلامي الصحيح في هذه العادة
القبيحة.