وقوله تعالى : " فأزلهما الشيطان عنها "
أي عن الجنة " فأخرجهما مما كانا فيه " أي من النعيم والنضرة والسرور ،
إلى دار التعب والكد والنكد ، وذلك بما وسوس لهما وزينة في صدورهما ، كما
قال تعالى : " فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من
الخالدين " يقول : ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو
تكونا من الخالدين ، أي لو أكلتما منها لصرتما كذلك .
" وقاسمهما " أي حلف لهما على ذلك " إني لكما لمن الناصحين " كما قال في
الآية الآخرى : " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد
وملك لا يبلى " أي هل أدلك على الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد
فيما أنت فيه من النعيم واستمررت في ملك لا يبيد ولا ينقضي ؟ وهذا من
التغرير والتزوير والإخبار بخلاف الواقع .
والمقصود أن قوله : شجرة الخلد التي إذا أكل منها خلدت ، وقد تكون هي
الشجرة التي قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ،
عن أبي الضحاك ، سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها : شجرة
الخلد " .
وكذا رواه أيضاً عن غندور وحجاج ، عن شعبة ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة أيضاً به .
قال غندر : قلت لشعبة : هي شجرة الخلد ؟ قال : ليس فيها هي . تفرد به أحمد .
وقوله : " فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان
عليهما من ورق الجنة " كما قال في طه : " فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما
وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ،
وهي التي حثته على أكلها . . والله أعلم .
وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري : حدثنا بشر بن محمد ، حدثنا عبد
الله ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم نحوه : " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ، ولولا حواء لم تخن
أنثى زوجها " .
تفرد به من هذا الوجه ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق ، عن معمر
، عن همام ، عن أبي هريرة به ، ورواه أحمد و مسلم عن هارون بن معروف ، عن
أبي وهب ، عن عمرو بن الحارث عن أبي يونس ، عن أبي هريرة به .
وفي كتاب التوراة التي بأيدي أهل الكتاب : أن الذي دل حواء على الأكل من
الشجرة هي الحية ، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها ، فأكلت حواء عن قولها ،
وأطعمت آدم عليه السلام ، وليس فيها ذكر لإبليس . فعند ذلك انفتحت أعينها
وعلما أنهما عريانان ، فوصلا من ورق التين وعملا مآزر ، وفيها أنهما كانا
عريانين . كذا قال وهب ابن منبه : وكان لباسهما نوراً على فرجه وفرجها .
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم ، وتحريف وخطأ في التعريب
، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يتيسر لكل أحد ، ولا سيما ممن لا يكاد
يعرف كلام العرب جيداً ، ولا يحيط علماً بفهم كتابه أيضاً ، فلهذا وقع في
تعريبهم لها خطأ كثير لفظاً ومعنى . وقد دل القرآن العظيم على أنه كان
عليهما لباس في قوله : " ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " فهذا لا
يرد لغيره من الكلام . . والله تعالى أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا على بن الحسن بن أسكاب ، حدثنا علي بن عاصم ،
عن سعيد ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر
الرأس كأنه نخلة سحوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه
عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة . فأخذت شعره شجرة فنازعها
. فناداه الرحمن عز وجل : يا آدم . . مني تفر ؟ فلما سمع كلام الرحمن قال
: يارب . . لا ، ولكن استحياء " .
وقال الثوري عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس : " وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " ورق التين .
وهذا إسناد صحيح إليه ، وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب ، وظاهر الآية يقتضي أعم من ذلك ، وبتقدير تسليمه فلا يضر . . والله تعالى أعلم .
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن ذكوان ، عن
الحسن البصري ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
إن أباكم آدم كان كالنخلة السحوق ، ستون ذراعاً كثير الشعر مواري العورة ،
فلما أصاب الخطيئة في الجنة بدت له سوأته ، فخرج من الجنة ، فلقيته شجرة
فأخذت بناصيته ، فناداه ربه : أفراراً مني يا آدم ؟ قال : بل حياء منك يا
رب مما جئت به " .
ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن يحيى بن ضمرة ، عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
وهذا أصح ، فإن الحسن لم يدرك أبياً .
ثم أورده أيضاً من طريق خيثمة بن سليمان الأطرابلسي ، عن محمد بن عبد
الوهاب أبي مرصافة العسقلاني ، عن آدم بن أبي إياس ، عن سنان ، عن قتادة
بن أنس مرفوعاً بنحوه .
" وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما
عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين " .
وهذا اعتراف ورجوع إلى الإنابة ، وتذلل وخضوع وإستكانة ، وافتقار إليه
تعالى في الساعة الراهنة ، وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت
عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه .
" قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " وهذا
خطاب لآدم وحواء وإبليس ، قيل والحية معهم ، أمروا أن يهبطوا من الجنة في
حال كونهم متعادين متحاربين .
وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه أمر بقتل الحيات ، وقال : " ما سالمناهن منذ حاربناهن " .
وقوله في سورة طه : " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو " هو أمر لآدم وإبليس ، واستتبع آدم حواء وإبليس الحية .
وقيل هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى : " وداود وسليمان إذ
يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين " .
والصحيح أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعى عليه ، قال : " وكنا لحكمهم شاهدين " .
وأما تكريره الإهباط في سورة البقرة في قوله : " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض
عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب
عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى
فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " فقال بعض المفسرين : المراد بالإهباط
الأول : الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا وبالثاني : من السماء الدنيا
إلى الأرض .
وهذا ضعيف لقوله في الأول : " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض
مستقر ومتاع إلى حين " فدل على أنهم أهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأول . .
والله أعلم .
والصحيح أنه كرره لفظاً وإن كان واحداً ، وناط مع كل مرة حكماً ، فناط
بالأول عداوتهم فيما بينهم ، وبالثاني الإشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي
ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد ، ومن خالفه فهو الشقي ، وهذا الأسلوب في
الكلام له نظائر في القرآن الحكيم .
وروى الحافظ ابن عسكر عن مجاهد قال : أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء
من جوازه . فنزع جبريل التاج عن رأسه ، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه ،
وتعلق به غصن ، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة ، فنكس رأسه يقول : العفو
العفو . فقال الله : أفراراً مني ؟ قال : بل حياء منك يا سيدي !
وقال الأوزاعي عن حسان - وهو ابن عطية - : مكث آدم في الجنة مائة عام ،
وفي رواية : ستين عاماً ، وبكى على الجنة سبعين عاماً ، وعلى خطيئته سبعين
عاماً ، وعلى ولده حين قتل أربعين عاماً . رواه ابن عساكر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا
جرير ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال
لها ( دحنا ) بين مكة والطائف .
وعن الحسن قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدستميان من
البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان . رواه ابن أبي حاتم أيضاً .
وقال السدي : نزل آدم بالهند ، ونزل معه بالحجر الأسود وبقبضة من ورق الجنة ، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب هناك .
وعن ابن عمر : أهبط آدم بالصفا ، وحواء بالمروة ، رواه ابن أبي حاتم أيضاً .
وقال عبد الرزاق : قال معمر : أخبرني عوف ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي
موسى الأشعري ، قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة
كل شيء وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه
تتغير وتلك لا تتغير .
وقال الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو بكر بن بالويه ، عن محمد بن أحمد بن
النضر ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة
العصر إلى غروب الشمس ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وفي صحيح مسلم من حديث الزهري عن الأعرض ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة : فيه خلق
آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها " وفي الصحيح من وجه أخر : " وفيه
تقوم الساعة " .
وقال أحمد : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن أبي عمار ، عن عبد
الله بن فروخ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير
يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه
أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة " على شرط مسلم .
فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا محمد
بن جعفر الوركاني ، حدثنا سعيد بن ميسرة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " هبط آدم وحواء عريانين جميعاً ، عليهما ورق الجنة ،
فأصابه الحر حتى قعد يبكي ويقول لها : يا حواء . . قد آذاني الحر ، قال :
فجاء جبريل بقطن ، وأمرها أن تغزل وعلمها ، وأمر آدم بالحياكة وعلمه أن
ينسج " وقال : " كان آدم لم يجامع امرأته في الجنة ، حتى هبط منها للخطيئة
التي أصابتها بأكلها من الشجرة " ، قال : " وكان كل واحد منهما ينام على
حدة ، وينام أحدهما في البطحاء والآخر من ناحية آخرى ، حتى أتاه جبريل
فأمره أن يأتي أهله " ، قال : "وعلمه كيف يأتيها فلما أتاها جاءه جبريل
فقال : كيف وجدت امرأتك ؟ قال : صالحة " .
فإنه حديث غريب ورفعه منكر جداً ، وقد يكون من كلام بعض السلف ، وسعيد بن
ميسرة هذا هو : أبو عمران البكري البصري قال فيه البخاري : منكر الحديث ،
وقال ابن حبان : يروي الموضوعات ، وقال ابن عدي : مظلم الأمر .
* * *
وقوله : " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " قيل
هي قوله : " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين " روى هذا عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والربيع بن
أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، وخالد بن معدان ، وعطاء الخرساني
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن بن أسكاب ، حدثنا علي بن عاصم ،
عن سعيد ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي كعب قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " قال آدم عليه السلام : أرأيت يا رب إن تبت
ورجعت أعائدي إلى الجنة ؟ قال : نعم " فذلك قوله : " فتلقى آدم من ربه
كلمات فتاب عليه " .
وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الكلمات : " اللهم لا إله إلا أنت
سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين . اللهم لا
إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب
الرحيم " .
وروى الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فتلقى آدم
من ربه كلمات فتاب عليه " قال : قال آدم : يا رب . . أمل تخلقني بيدك ؟
قيل له : بلى ونفخت في من روحك ؟ قيل له : بلى . وعطست فقلت يرحمك الله ،
وسبقت رحمتك غضبك ؟ قيل له : بلى . وكتبت علي أن أعمل هذا ؟ قيل له : بلى
، قال : أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال : نعم .
ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وروى الحاكم أيضاً و البيهقي وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم ، عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب . . أسألك بحق محمد إلا
غفرت لي " .
فقال الله : فكيف عرفت محمد ولم أخلقه بعد ؟
فقال : يا رب . . لأنك لما خلقتني بيدك ، ونفخت في من روحك ، رفعت رأسي ،
فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك .
فقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلي ، وإذا سألتني بحقه فقد غفرت لك ، ولولا محمد ما خلقتك .
قال البيهقي : تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف . . والله أعلم .
وهذه الآية كقوله تعالى : " وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى