قال الله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك
ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على
الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم
لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم
فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم
ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا
إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة
وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين *
فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه
إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن
تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " .
وقال تعالى : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون " وقال تعالى : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " .
كما قال : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " .
وقال تعالى : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها " .
وقال تعالى : " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون
لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون *
قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم
لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين * قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم
أجمعين * ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه
الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما
من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو
تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما
ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما
ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين *
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال
اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها
تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " .
كما قال في الآية الأخرى : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة
أخرى " وقال تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان
خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من
صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين *
فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا
إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من
صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم
الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم
الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين
* إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها
سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " .
وقال تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد
لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة
لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء
موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم
في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " وقال تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته
أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " وقال تعالى : " ولقد
عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا
يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ
فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد
وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق
الجنة وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها
جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال
رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك
اليوم تنسى " . وقال تعالى : " قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان
لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين
* إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من
روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر
وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت
أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال
فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني
إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال
فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول
* لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل ما أسألكم عليه من أجر وما
أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين " .
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن ، ولنذكر هاهنا مضمون ما
دلت عليه هذه الآيات الكريمات ، وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة في ذلك
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . والله المستعان .
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلاً لهم : " إني جاعل في الأرض خليفة "
أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضاً كما قال : "
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " وقال تعالى : " ويجعلكم خلفاء الأرض "
فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته ، كما يخبر بالأمر العظيم
قبل كونه ، فقالت الملائكة سائلين على وجه الإستكشاف والإستعلام عن وجه
الحكمة ، لا على وجه الإعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم ، كما قد
يتوهمه بعض جهلة المفسرين ، قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء " .
وقيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن ، قاله قتادة .
وقال عبد الله بن عمر : كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور .
وعن ابن عباس نحوه . وعن الحسن ألهموا ذلك .
وقيل : لما أطلعوا عليه من اللوح المحفوظ ، فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت
عن ملك فوقهما يقال له السجل . رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر .
وقيل : لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالباً .
" ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " أي نعبدك دائماً لا يعصيك منا أحد ، فإن كان
المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن أولاء لا نفتر ليلاً ولا نهاراً .
" قال إني أعلم ما لا تعلمون " أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق خلق
هؤلاء ما لا تعلمون ، أي سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون
والشهداء الصالحون .
ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال
ابن عباس : هي هذه الأسماء لا يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ،
وسهل ، وبحر ، وجبل ، وجمل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وقال مجاهد : علمه اسم الصحفة ، والقدر ، حتي الفسوة والفسية .
وقال مجاهد : علمه اسم كل دابة ، وكل طير وكل شيء . وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد .
وقال الربيع : علمه أسماء الملائكة . وقال عبد الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته .
والصحيح : أنه علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصغرها ، كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما .
وذكر البخاري هنا ما رواه هو و مسلم من طريق سعيد وهشام ، عن قتادة ، عن
أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يجمع المؤمنون يوم
القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا ، فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر
، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء " وذكر تمام
الحديث .
" ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " قال
الحسن البصري : لما أراد الله خلق آدم ، قالت الملائكة : لا يخلق ربنا
خلقاً إلا كنا أعلم منه . فابتلوا بهذا ، وذلك قوله : " إن كنتم صادقين " .
وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير .
قالوا : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " أي
سبحانك أن يحيط أحد بشيء من علمك من غير تعليمك ، كما قال : " ولا يحيطون
بشيء من علمه إلا بما شاء " .
" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني
أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " أي أعلم السر
كما أعلم العلانية .
وقيل : إن المراد بقوله : " أعلم ما تبدون " ما قالوا : " أتجعل فيها من
يفسد فيها " وبقوله : " وما كنتم تكتمون " المراد بهذا الكلام إبليس حين
أسر الكبر والنفاسة على آدم عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير ومجاهد
والسدي والضحاك والثوري واختاره ابن جرير .
وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة : " وما كنتم تكتمون " قولهم : لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه .
وقوله : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر "
هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ،
كما قال : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " فهذه أربع
تشريفات : خلقه بيده الكريمة ، ونفخه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له
، وتعلميه أسماء الأشياء .
ولهذا قال له موسى حين اجتمع هو وإياه في الملأ الأعلى وتناظرا كما سيأتي
: " أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده . ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك
ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء " . وهكذا يقول له أهل المحشر يوم القيامة
كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وقال في الآية الأخرى : " لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك أن لا تسجد إذ
أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " .
قال الحسن البصري : قال إبليس ، وهو أول من قاس . وقال محمد بن سيرين :
أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس ، رواهما ابن
جرير .
ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم . فرأى نفسه أشرف من
آدم فامتنع من السجود له ، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود .
والقياس إذا كان مقابلاً بالنص كان فاسد الإعتبار ، ثم هو فاسد في نفسه ،
فإن الطين أنفع وخير من النار ، لأن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة
والنمو ، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق .
ثم إن آدم شرفه الله بخلقه له بيده ونفخه فيه من روحه ، ولهذا أمر
الملائكة بالسجود له ، كما قال : " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من
صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين *
فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا
إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من
صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم
الدين " استحق هذا من الله تعالى لأنه استلزم تنقصه لآدم وازدارءه به
وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهي ومعاندة الحق في النص على آدم على
التعيين .
وشرع في الإعتذار بما لا يجدي عنه شيئاً ، وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما
قال تعالى في سورة سبحان : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا
إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن
إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن
جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم
بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا
غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " .
وقال في سورة الكهف : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس
كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " أي خرج عن
طاعة الله عمداً وعناداً وإستكباراً عن امتثال أمره ، وما ذاك إلا لأنه
خانه طبعه ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليه ، فإن مخلوق من نار كما قال ،
وكما جاء في صحيح مسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف
لكم " .
قال الحسن البصري : لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط . وقال شهر بن
حوشب : كان من الجن ، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله إليه جنداً من
الملائكة فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار ، وكان إبليس ممن أسر فأخذوه
معهم إلى السماء فكان هناك ، فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع إبليس منه .
قال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرون : كان
إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا . قال ابن عباس : وكان اسمه عزازيل ،
وفي رواية عنه : الحارث قال النقاش : وكنيته أبو كردوس . قال ابن عباس :
وكان من حي من الملائكة يقال لهم الجن ، وكانوا خزان الجنان ، وكان من
أشرفهم ومن أكثرهم علماً وعبادة . وكان من أولى الأجنحة الأربعة فمسخه
الله شيطاناً رجيماً .
وقال في سورة ص : " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون *
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما
خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار
وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين
* قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت
المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال
فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " .
وقال في سورة الأعراف : " قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم *
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد
أكثرهم شاكرين " أي بسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم كل مرصد ، ولآتينهم من كل
جهة منهم ، فالسعيد من خالفه والشقي من اتبعه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا أبو عقيل - هو عبد الله
بن عقيل الثقفي - حدثنا موسى بن المسيب ، وعن سالم بن أبي الجعد ، عن سبرة
بن أبي الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن
الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه " وذكر الحديث .
* * *
وقد اختلف المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدم .
أهم جميع الملائكة كما دل عليه عموم الآيات ؟ وهو قول الجمهور .
أو المراد بهم ملائكة الأرض ، كما رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن
عباس ؟ وفيه انقطاع وفي السياق نكارة ، وإن كان بعض المتأخرين قد رجحه .
ولكن الأظهر من السياقات الأولى ، ويدل عليه الحديث : " وأسجد له ملائكته " وهذا عموم أيضاً . . والله أعلم .
وقوله تعالى لإبليس : " اهبط منها " و " اخرج منها " دليل على أنه كان في
السماء فأمر بالهبوط منها ، والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد
نالها بعبادته ، وتشبهه بالملائكة في الطاعة والعبادة ، ثم سلب ذلك بكبره
وحسده ومخالفته لربه ، فأهبط إلى الأرض مذءوماً مدحوراً .
* * *
وأمر الله آدم عليه السلام أن يسكن هو وزوجته الجنة فقال : " وقلنا يا آدم
اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة
فتكونا من الظالمين " .
وقال في الأعراف : " قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن
جهنم منكم أجمعين * ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا
تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " .
وقال تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى *
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك
أن لا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " .
وسياق هذه الآيات يقتضي أن خلق حواء كان قبل دخول آدم إلى الجنة لقوله : "
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " وهذا قد صرح به إسحاق بن يسار ، وهو ظاهر
هذه الآيات .
ولكن حكى السدي عن أبي صالح وأبي مالك ، وعن ابن عباس وعن مرة عن ابن
مسعود ، وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا : أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم
الجنة ، فكان يمشي فيها وحشي ليس له فيها زوج يسكن إليها ، فنام نومة
فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه . فسألها : ما أنت ؟
قالت : امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إلي . فقالت له الملائكة
ينظرون ما بلغ من علمه : ما اسمها يا آدم ؟ قال : حواء ، قالوا : ولم كانت
حواء ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي .
وذكر محمد بن إسحاق ، عن ابن عباس : أنها خلقت من ضلعه الأقصر الأيسر وهو نائم ولأم مكانه لحماً .
ومصداق هذا في قوله تعالى : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس
واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " الآية . وفي قوله
تعالى : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما
تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به " الآية ، وسنتكلم عليها فيما بعد إن شاء
الله تعالى .
وفي الصحيحين من حديث زائدة ، عن ميسرة الأشجعي . عن أبي حازم ، عن أبي
هريرة . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " استوصوا بالنساء خيراً ،
فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهب تقيمه
كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً " هذا لفظ البخاري .
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى : " ولا تقربا هذه الشجرة " فقيل : هي
الكرم ، وروى عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والشعبي وجعدة بن هبيرة ،
ومحمد بن قيس ، والسدي في رواية عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من
الصحابة ، قال : وتزعم يهود أنها الحنطة ، وهذا مروى عن ابن عباس والحسن
والبصري ، ووهب بن منبه ، وعيطة العوفي ، وأبي مالك ، ومحارب بن دثار ،
وعبدالرحمن بن أبي ليلى .
وقال وهب : والحبة منه ألين من الزبد وأحلى من العسل .
وقال الثوري عن أبي حصين ، عن أبي مالك : " ولا تقربا هذه الشجرة " هي
النخلة . وقال ابن جريج عن مجاهد : هي التينة ، وبه قال قتادة ، وابن جريج
، وقال أبو العالية : كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي في الجنة حدث .
وهذا الخلاف قريب ، وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها ، ولو كان في ذكرها
مصلحة تعود إلينا لعينها لنا ، كما في غيرها من المحال التي تبهم في
القرآن .
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي أدخلها آدم : هل هي في السماء أو في الأرض ، هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه .
والجمهور على أنها هي التي في السماء ، وهي جنة المأوى ، لظاهر الآيات
والأحاديث كقوله تعالى : " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " والألف
واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي ، وإنما تعود على معهد ذهني ، وهو
مستقر شرعاً من جنة المأوي . وكقوله موسى عليه السلام لآدم عليه السلام :
" علام أخرجتنا ونفسك من الجنة ... " ؟ الحديث كما سيأتي الكلام عليه .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشجعي - اسمه سعد بن طارق - عن أبي
حازم سلمة بن دينار ، عن أبي هريرة ، وأبو مالك عن ربعي ، عن حذيفة قالا :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين
تزلف لهم الجنة . فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا .. استفتح لنا الجنة ،
فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم " ؟ وذكر الحديث بطوله .
هذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى ، وليس تخلو عن نظر .
وقال آخرون : بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد ، لأنه كلف فيها
ألا يأكل من تلك الشجرة ، ولأنه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها
، وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى .
وهذا القول محكي عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، ووهب بن منبه ،
وسفيان بن عيينة ، واختاره ابن قتيبة في ( المعارف ) والقاضي بن منذر بن
سعيد البلوطي في تفسيره ، وأفرد له مصنفاً على حدة ، وحكاه عن أبي حنيفة
الإمام وأصحابه رحمهم الله ، ونقله أبو عبد الله محمد ابن عمر الرازي بن
خطيب الري في تفسيره عن أبي القاسم البلخي ، وأبي مسلم الأصبهاني ، ونقله
القرطبي في تفسيره عن المعتزلة والقدرية .
وهذا القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب وممن حكى الخلاف في هذه
المسألة أبو محمد بن حزم في ( الملل والنحل ) وأبو محمد بن عطية في تفسيره
وأبو عيسى في الرماني في تفسيره ، وحكى عن الجمهور الأول ، وأبو القاسم
الراغب ، والقاضي الماوردي في تفسيره فقال : واختلف في الجنة التي أسكناها
- يعني آدم وحواء - على قولين : أحدهما : أنها جنة الجلد . والثاني : أنها
جنة أعدها الله لهما وجعلها دار إبتلاء ، وليست جنة الخلد التي جعلها دار
جزاء .
ومن قال بهذا اختلفوا على قولين : أحدهما : أنها في السماء لأنه أهبطهما
منها ، وهذا قول الحسن ، والثاني أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي
عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار ، وهذا قول ابن يحيى ، وكان
ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم . . والله أعلم بالصواب من ذلك .
هذا كلامه . فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة ، وأشعر كلامه أنه متوقف في
المسألة . ولهذا حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة
أقوال : هذه الثلاثة التي أوردها المارودي ، ورابعها : الوقف . وحكى القول
بأنها في السماء وليست جنة المأوي ، عن أبي علي الجبائي .
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالاً يحتاج مثله إلى جواب ، فقالوا : لا شك
أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية ،
وأمره بالخروج عنها والهبوط منها وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث
يمكن مخالفته ، وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ، ولهذا قال : "
اخرج منها مذؤوما مدحورا " وقال : " اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها
" وقال " اخرج منها فإنك رجيم " والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو
المنزلة ، وأياً ما كان فمعلوم أنه ليس له الكون قدراً في المكان الذي طرد
منه وأبعد منه ، لا على سبيل الإستقرار ولا على سبيل المرور والإجتياز .
قالوا : ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له : "
هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " وبقوله : " ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن
الناصحين * فدلاهما بغرور " الآية .
وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما .
وقد اجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور
فيها ، لا على سبيل الإستقرار بها ، وأنه وسوس لهما وهو على باب الجنة أو
من تحت السماء .
وفي الثلاثة نظر . . والله أعلم .
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة : ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في
الزيادات ، عن هدبة ابن خالد ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن
البصري ، عين يحيى بن ضمرة السعدي ، عن أبي بن كعب ، قال : إن آدم لما
احتضر اشتهى قطفاً من عنب الجنة ، فانطلق بنوه ليطلبوه له ، فلقيتهم
الملائكة فقالوا : أين تريدون يا بني آدم ؟ فقالوا : إن أبانا اشتهى قطفاً
من عنب الجنة . فقالوا لهم : ارجعوا فقد كفيتموه . فانتهوا إليه فقبضت
روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل ومن خلفه الملائكة ودفنوه ،
وقالوا : هذه سنتكم في موتاكم .
وسيأتي الحديث بسنده ، وتمام لفظه عند ذكر وفاء آدم عليه السلام .
قالوا : فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى
منها القطف ممكناً ، لما ذهبوا يطلبون ذلك ، فدل على أنها في الأرض لا في
السماء . . والله تعالى أعلم .
قالوا : والإحتجاج بأن الألف واللام في قوله : " ويا آدم اسكن أنت وزوجك
الجنة " لم يتقدم عهد يعود عليه فهو المعهود الذهني مسلم ، ولكن هو ما دل
عليه سياق الكلام ، فإن آدم خلق من الأرض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء ،
وخلق ليكون في الأرض ، وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال : " إني جاعل في
الأرض خليفة " .
قالوا : وهذا كقوله تعالى : " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " فالألف
واللام ليس للعموم ، ولم يتقدم معهود لفظي ، وإنما هو للمعهود الذهني الذي
دل عليه السياق وهو البستان .
قالوا : وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء ، قال الله تعالى : "
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك " وإنما كان في
السفينة حتى استقرت على الجودي ونضب الماء على وجه الأرض أمر أن يهبط إليه
هو ومن معه مباركاً عليه وعليهم .
وقال الله تعالى : " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " الآية وقال تعالى : "
وإن منها لما يهبط من خشية الله " الآية . وفي الأحاديث واللغة من هذا
كثير .
قالوا : ولا مانع - بل هو الواقع - أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة
عن سائر بقاع الأرض ، ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور ، كما قال
تعالى : " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى " أي لا يذل باطنك بالجوع ولا
ظاهرك بالعري " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " أي لا يمس باطنك حر الظمأ
ولا ظاهرك حر الشمس ، ولهذا قرن هذا وهذا ، وبين هذا وهذا ، لما بينهما من
الملاءمة .
فلما كان منه ما كان من أكله من الشجر التي نهي عنها ، أهبط إلى أرض
الشقاء والتعب ، والنصب والكدر ، والسعي والنكد ، والإبتلاء والإختبار
والإمتحان ، واختلاف السكان ديناً وأخلاقاً وأعمالاً ، وقصوداً وإرادات
وأقولاً وأفعالاً ، كما قال تعالى : " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
" .
ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال : " وقلنا من بعده لبني
إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " ، ومعلوم أنهم
كانوا فيها ولم يكونوا في السماء .
قالوا : وليس هذا القول مفرعاً على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ،
ولا تلازم بينهما ، فكل من حكى عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف ، ممن
يثبت وجود الجنة والنار اليوم ، كما دلت عليه الآيات والأحاديث الصحاح . .
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب