الخطبة الثانية
أمّةَ الإسلام !
أما بعد فإن خير
الكلام كلام الله ، و خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، و شر الأمور
محدثاتها ، و كل محدثة بدعة ، و عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ،
و من شذ شذ في النار .
عباد الله ! إنّ من رحمة الله أن نُدرك شهرَ رمضان في هذه الأعوام في فصل
الشتاء ، الذي قال عنه بعض السلَف : الشتاء ربيع المؤمن قَََصُرَ نهارُهُ
فصامَه ، و طالَ ليلُه فقامَهُ ، و هذا مصداق لقول النبيّ صلى الله عليه
وسلم كما في حديث عامر بن مسعود رضي الله عنهما : ( الصوم في الشتاء
الغنيمة الباردة ) ، و إسناده حسن ، كما في صحيح الجامع .
فاستعينوا بالنعمة على النعمة يا عباد الله .
و لا يفوتني و الحديث عن موسمٍ من
مواسم الخير ينبغي لنا اغتنامه ، أن أشير إلى أنّ الأيّام القادمة حُبلى
بموسمٍ من مواسم الشرّ ينبغي لنا أن نحذَره و نحذّر منه ، ذلكم هو ما
يُعرَف عند أهله بيوم الهَلَوِين ، اليوم الأخير من شهر أكتوبر ( تشرين
الأوّل ) كلّ عام .
يومٌ ورثت أوروبا النصرانيّة الاحتفال به عن الوثنيّة الإيرلندية التي كانت
تعظّمه قبل الميلاد بزمنٍ طويل ، باعتباره أحد الطقوس الوثنيّة الموغلة في
القِدَم ، و تحكي أساطيرُهم قصصاً عن منشأ الاحتفال بهذا اليوم ، أشهرها
تلك التي تعتبر اليوم الأول من شهر نوفمبر ( تشرين الثاني ) يوم تتلاقى فيه
شهور الحياة و شهور الموت كلّ عام ، فتخرج الأرواح ، و تنتشر الأشباح ، و
تروج شعوذات السحرة ، و طلاسم المشعوذين الفجرة .
و يٌغلِق الناس على أنفسهم الأبواب خوفاً من الأرواح الشرّيرة ليلاً ، و
يخرجون في اليوم التالي ذرافاتٍ و وِحداناً في مسيرات تنكّرية هستيريّة ،
يلبسون فيها الأقنعة ، و يقرعون الأجراص و الطبول ، و يعزفون الأنغام
الصاخبةَ الطاردة للأرواح الشريرة في زعمهم .
أمّا في البيوت ؛ فيعدّون أصنافاً محدّدةً من الأطعمة و الحلوى ، أشهرها ، و
يضعون أمام باب كل بيتٍ من بيوتهم قرعةً رطبةً ، أخرجوا لبّها ، و بَقروا
قشرها ليصنعوا منها هيكلاً يشبه وجه الإنسان ، فإذا طَرَق بابهُم طارقٌ من
الصبيان خَرجوا إليه ببعض ما صنعوه من الحلوى بهذه المناسبة ، إرضاءً له ، و
خشية أن يكون روحاً شريرة قادمة من عالم الموتى متنكراً في صورة طفل صغيرٍ
، يلحق بهم الأذى ما لَم يُرضوه .
و في هذه المناسبة الوثنيّة تعطّل دوائر الدولة و المؤسسات العامّة يوماً ،
و المدارس و المعاهد أسبوعاً ، لإتاحة الفرصة أمام من يحتفون و يحتفلون
بهذه المناسبة .
و لا ريب في أنّ مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات من كبرى المحرّمات ، لما فيها من اللغو و الزور ، و دأب المؤمنين أنّهم ( لا يشهدون الزور و إذا مروا باللغو مرّوا كِراماً ) ، و قد روي عن كثيرٍ من السلف قولهم في تفسير قوله تعالى : ( لا يشهدون الزور ) أنّها أعياد المشركين .
و روى أبو داود و النسائي و غيرهما بإسناد على شرط مسلم عن أنس بن مالك رضي
الله عنه ، قال : قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة و لهم يومان
يلعبون فيهما ، فقال : ( ما هذان اليومان ؟؟ ) قالوا : كنّا نلعب فيهما في
الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله قد أبدلكم
بهما خيراً منهما يوم الأضحى ، و يوم الفطر ) .
فانظروا رحمكم الله كيف نهى أصحابه عن اللعب في يوم لعبهم في الجاهليّة
تأكيداً على تميّز المجتمع المسلم و عدم مشاركة المشركين ، فضلاً عن
تقليدهم و متابعتهم في أعيادهم و مناسباتهم .
و إذا كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه منع أهل من إظهار أعيادهم في بلاد
المسلمين ، و وافقه على ذلك الصحابة فكان إجماعاً سكوتيّاً منهم على ذلك ،
فإنّ قياس الأولى يتّجه إلى تحريم مشاركة المسلم لأهل الذمّة في أعيادهم في
ديار الإسلام ، و أشنع منهم و أغلظ في التحريم مشاركتهم في ذلك في دار
الكفر أو الحرب .
كما يحسن التحذير ممّا دأب عليه قومٌ لا يعرفون الله إلاّ في رمضان ، حيث
يقبلون بشغف على محارم الله فينتهكونها بين يدي هذا الشهر الفضيل ، فيختمون
شعبان بالمعاصي التي سيُحال بينهم و بينها بالصيام في رمضان ، و حالهم كما
قال قائلهم :
إذا العشرون من شعبـان ولت *** فواصـل شـرب ليلك بالنهار
و لا تشـرب بأقـداح صغـار *** فإن الوقت ضاق عن الصغـار
و لهؤلاء و أمثالهم من المقيمين على المعاصي ، و يغفلون عن علاّم الغيوب ، نصيب من قوله تعالى : {وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ
لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا
أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ
} .
فاتّقوا الله يا عباد الله
، و تزوّدوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه ، و صلّوا و سلّّموا على نبيّه
و آله و صحبه و من والاه ، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم ، إذ قال ربّ
العالمين : ( إنّ الله و ملائكته يصلُّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما )
اللهم صلّ و سلّم و بارك على عبدك ، و رسولك محمّد ، و على آله و صحبه أجمعين .